مئوية زايد.. مدرسة الحكمة والاعتدال – بقلم د. حسن قايد الصبيحي

د. حسن قايد الصبيحي

وقف الشاعر العربي أمام قصر الحمراء في الأندلس، وراعه ما رأى من عظمة البناء، ومن خلود الباني فأنشد على الفور: همم الرجال إنْ أرادوا جمعها من بعدهم فبأذرع البنيان
إن البناء إذا تعاظم شأنه ينبئك عن بان عظيم الشأن.
وجاء الوقت الذي نقف فيه مشدودين ومشدوهين كالشاعر الأندلسي في مئوية زايد أمام ما هو أعظم، وما هو أقيم مما تركه الأجداد، ليس في الأندلس فقط، بل وفي كل حاضرة تراثية عربية. فلا أظن أن عصراً شهد مثل هذا النهوض الذي شهدته الإمارات وشقيقاتها الخليجيات في منطقة الخليج وفي عهد زايد. وعلى علمي، فإن المنطقة لم تشهد مثل هذا البناء منذ بنى الفراعنة الأهرامات وحتى اليوم. وعليه، فإن أجيالاً طويلة من أحفاد زايد الإماراتيين وحتى العرب سيظلون مشدوهين أمام هذا الإعجاز إلى أن يأتوا بما هو أكبر. فيضاف إلى ما تراكم من إنجاز ومن إعجاز في عصر زايد. فقد غفل العرب كثيراً عن قيم العمل وعن إنجازات الأجداد، وغطوا في نوم عميق. 
حدث تزامن تاريخي عجيب في استقلال شعوب الجزيرة العربية شمالها وجنوبها، فقد استقل اليمن في الجنوب عام 1967 وتبعه تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة الذي نحتفل به مطلع ديسمبر القادم، وفي الوسط، كانت المملكة العربية السعودية واليمن يتمتعان بالاستقلال على مدى تاريخهما الطويل. 
وفي كتابي المرجعي (سهيل يشتعل: اليمن وإحباط محاولة بيع وطن) الذي يوثق للتاريخ السياسي لليمن، ويعالج تفاصيل ودوافع الهيمنة الإيرانية على اليمن، وإحباط المملكة والإمارات المؤامرة الإيرانية على الجزيرة العربية برمتها قبل أن يستفحل خطر هذه المؤامرة. ووضعت في آخر الكتاب ملحقاً للصور، وعمدت إلى اختصار تجربة النجاح الذي حققه زايد بتعاون المؤسسين أعضاء المجلس الأعلى للاتحاد. وفي المقابل اختصرت حالة الإخفاق الذي وصلت إلى نهايته قيادة الجنوب «اليسارية»، وذهب أصحابها في صراعات دموية ألحقت بالمنطقة الكثير من الأذى والاضطراب، لا تزال تدفعها الجموع حتى اليوم.
وحين غادرت بريطانيا المنطقة، ظهرت مدرستان متناقضتان، إحداهما ترى أن كل ما فعله الإنجليز شر، ولا مناص من محو أثر الوجود الغربي، بما فيه الاقتصاد والتجارة والتعليم والعلاقات الدولية حتى تلك التي تربط الدولة المستقلة بمصالح تجارية ضاربة طالما أنها أبرمت في عهد الاحتلال، فلا داعي لهذه الروابط- حسب هذه المدرسة المتطرفة- إلى حد التضحية بمصالح شعب بأسره، ويبدو أن هذا كان الخط الواضح المباشر لسياسة اليمن الجنوبي المرتبط بالنهج السوفييتي، وكان قادته، يدمرون بانتظام نظاماً معاصراً، وحديثاً عاشت عليه بريطانيا واتحاد الجنوب العربي باليمن. 
أما المدرسة الثانية، وهي الأوسع أفقاً، والأبعد نظراً، فقد كانت مدرسة الحكمة والرؤية والاعتدال، ورأت أن علاقة المنطقة بما تحمله أرضها من ثروة ومستقبل واعد يفتعل في عقول ووجدان القادة المخلصين، فقد كانت ترى أن أية مكاسب حققتها المنطقة في عهد الوجود البريطاني، يجب الاحتفاظ بها وتطويرها ويتم البناء عليها، وأن الاستفادة من خبرة الدول المتقدمة، ستراكم الإنجاز الحضاري، وتسهم في تطوير القدرات الاقتصادية والعلمية للبلاد، وتساعد على خلق كادر مؤهل، وصولاً إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي، كما نحن الآن نقترب من هذا الهدف يوماً بعد يوم، وتلك هي مدرسة المغفور له الوالد الشيخ زايد، طيب الله ثراه. فقد وضع نصب عينيه بناء الإنسان الإماراتي دون الارتهان للأفكار المسبقة، أو النظريات الجامدة التي كان يلوكها طلبة «الروضة» الماركسية. فرأينا التحولات تتابع يوماً بعد يوم، ورأينا المحافظة على استقلال القرار في الإمارات، ورأينا الإسهام الإماراتي القومي على شكل علاقات عربية وثيقة ودعم مادي سخي للأشقاء العرب، ورأينا المكانة الدولية الرفيعة لدولة الإمارات.
وفي كتاب «سهيل يشتعل..»، كتبت تعليقاً تحت صورة المؤسسين الإماراتيين يقول «بأن أعضاء المجلس الأعلى للاتحاد أسسوا وطناً مزدهراً وآمناً مستتباً، وأصبحت دولة الإمارات الرائدة الأولى في التجارة والصناعة وأمن وسلامة وطنها ومواطنيها».
وفي الجانب الآخر، صورة تجمع سالم ربيع علي وعبد الفتاح إسماعيل وعلي ناصر محمد الذين تسلموا الجنوب اليمني، فدمروا اقتصاده ونكلوا بشعبه وتركوه ممزقاً أشلاء، ثم سلموه صاغراً لعلي صالح، وما حدث من تداعيات أجهزت على ما تبقى في اليمن من مقومات. 
هنا وعند هذه النقطة، تفترق إرادة الحاكمين. إما أن يكونوا أصحاب رؤية استراتيجية، وقد تكللت جهودهم بالتفوق والنجاح، وإما أصحاب نظرة ضيقة، وأفق مغلق يمارسون العمل السياسي الصبياني، ولا يجدون لهم مكاناً في التاريخ. فقد صدقت رؤية زايد ونجح في بناء وطن مستقر ومنتج يساهم في الدفاع عن الأمن والاستقرار العربي والعالمي، ويلعب دوراً ريادياً في الاستقرار الاقتصادي، ويساهم بما للإمارات من وجود قوي في المؤسسات الاقتصادية الكبرى في الازدهار العالمي. سلام عليك، يا أبانا زايد في النعيم، فقد سلّمت الأمانة، وقدمت لأبنائك وطناً عامراً بالأمن والأمان.