مآثر خالدة – بقلم خالد القشطيني

15520.8

تربية الأطفال موضوع شغل سائر الشعوب ورجال الحكم. ولا عجب أن يأخذ مكانه في مجلس هذا الخليفة الورع. الفكرة عند معظم الأمم أن حسن التربية يقتضي من الطفل ألا يفتح فمه بالكلام في مجالس الكبار.
هكذا نسمع الإنجليز يقولون «ينبغي على الأطفال أن نراهم ولا نسمعهم!» نحن نصف الطفل بالعاقل بأنه من يلتزم الصمت. بيد أن هذه الفكرة انقلبت الآن كلياً، لا سيما تحت وقع النظريات النفسية التي تؤكد على عدم كبت الطفل وفتح المجال أمامه ليعبر عن أفكاره وأحاسيسه.
نشأت من ذلك مؤخراً حركات سياسية تؤكد على «حقوق الطفل» وأيضاً «قوة الطفل». هكذا أصبحنا نرى صغار السن يقومون بشتى الأعمال العجيبة، بما فيها مع الأسف الجرائم الخطرة. وقد عرفنا مؤخراً أن الإرهابيين مثل «داعش» يجندون الأطفال ويزودونهم بالسلاح ليقوموا بشتى الأدوار الإرهابية، ومنها العمليات الانتحارية. وهو مما لا يرتجى في الصبا والطفولة.
بيد أن تراثنا العربي يضم كثيراً من الحكايات والمأثورات والأشعار المفيدة التي تنسجم مع آخر النظريات التربوية في إطار قوة الطفل. ومن أطرفها الحكاية التي وردت في أكثر من مصدر عربي عن الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز.
قال الرواة إنه عندما استخلف عمر بن عبد العزيز، قدمت إليه وفود من سائر الجهات، كما كان معتاداً، لتبايعه وتهنئه. قالوا عندما وصل وفد من الحجاز، أشار غلام منهم بالكلام، فقال له الخليفة: يا غلام، يتكلم من هو أسن منك.
لم يرتعد الغلام من تأنيب الخليفة، بل تحداه فأجابه وقال: «يا أمير المؤمنين، إن المرء بأصغريه، قلبه ولسانه، فإذا منح الله تعالى عبده لساناً لافظاً وقلباً حافظاً، فقد أجاز له الخيار، ولو أن الأمور بالسن لكان في الناس من هو أحق منك بمجلسك». فقال عمر: «صدقت، فهذا هو السحر الحلال».
فقال: يا أمير المؤمنين نحن وفد التهنئة لا وفد التعزية. إنا قدمنا عليك رغبة منا ولا رهبة منك. أما عدم الرغبة فقد أمنا بك في منازلنا. وأما عدم الرهبة فقد أمنا بك في جورك بعدلك. فنحن وفد الشكر. والسلام.
يروي الأبشيهي صاحب «المستطرف في كل فن مستظرف» فيقول: إن عمر بن عبد العزيز سأل الصبي الغرير وقال له «عظني يا غلام». فقال الغلام، غير آبه أو هياب: «يا أمير المؤمنين، إنَّ أناساً غرهم حلم الله وثناء الناس عليهم، فلا تكن ممن يغره حلم الله وثناء الناس عليه فتزل قدمك وتكون من الذين قال الله فيهم: (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون)».
عندئذ نطق الخليفة الورع فأنشد الحاضرين هذين البيتين من الشعر:
تعلم فليس المرء يولد عالماً
وليس أخو علم كمن هو جاهل
فإن كبير القوم لا علم عنده
صغير إذا التفت عليه المحافل

جريدة الشرق الاوسط