الكاتب الخلاق الذي ساءل اللغة والكينونة عبده وازن

abdowazn

لعلّ العقبة الأولى التي تواجه قارئ أدب خليل رامز سركيس، تتمثل في صعوبة «تجنيس» هذا الأدب الذي لا يمكن إدراجه بسهولة في خانة النوع الأدبي. وقد يحار القراء، وبخاصة القراء الجدد الذي ينتمون إلى الأجيال التي أعقبت جيل كاتبنا، كيف يقرأون هذا الأدب الذي يصبّ في صميم الصنيع الأدبي ويخرج عنه في آن، هذا الأدب الذي يطلّ على حقل الفلسفة من دون أن يقع في شركها المنهجي والعقلي الصرف. وقد تكمن فرادة نصوص سركيس في هذا الالتباس الإبداعي الذي يحفّز القارئ على طرح السؤال تلو السؤال من غير أن يخلص إلى أجوبة شافية. فما يقرأه لا عهدة له به سابقاً، في متن اللغة والأدب العربيين. لغة هي في أوج تجلّيها جمالياً أو «صناعة» جمالية، وأدب يكاد يتخطى تخوم الأدب ليطل على فضاء الفلسفة والتأمّل الفلسفي والدين، وليحاذي اللاهوت من دون أن يغرق في مسائله المجردة، وهذه كلّها لا تتوانى عن الانصهار، بعضها ببعض، لتخلق حيّزاً معرفياً، غير مألوف في الأدب العربي، بعمقه ورويّته وإيغاله في صميم الذات الإنسانية والكائن والكينونة. أما اللغة التي يُعدّ سركيس واحداً من سدنتها الأخيرين وحراسها الساهرين عليها، فهي لديه لا تخلو من مفهوم الاجتراح بصفتها «الأعجوبية» التي لا تتخيّر إلا من «أعطي» لهم. وكاتبنا أُغدق عليه من أسرار اللغة وبيانها ما تطفح به نصوصه وما يتفرّد به أدبه.

قد تمثل اللغة هنا، بصفتها ظاهرة في قلب ظاهرة أخرى هي النصّية الحرّة أو «المفتوحة»، خير مدخل إلى قراءة الأدب السركيسيّ الذي لا يخفي البتة هاجسه اللغوي وهمّه الجماليّ. فاللغة هذه ،لا تمكن مقاربتها وكأنّها منفصلة عن المعنى أو «العمق» وفق تعبير بول فاليري. والفصاحة التي تتسم بها نصوص سركيس لا تُقرأ على ضوء الفصاحة الكلاسيكية أو البيان والبديع «القديمين» بما يضمّان من محسّنات ومعايير راسخة تاريخياً. ومهما بدت هذه اللغة مصنوعة صنع الناثر الحذق ومصوغة صوغ الصائغ الماهر فهي تظل في منأى عن ضروب التصنّع والكلفة والافتعال. إنّها أولاً وأخيراً لغة معنى، إن جاز القول. وفي كونها لغة معنى فهي تتخطى نفسها وقيودها الجمالية والبيانية لتغرق في ما يمكن وصفه بالبلاغة المقعّرة، بلاغة الفلاسفة المأخوذين بحرفة الأدب، أو بلاغة الأدباء المفتونين بظلال الفلسفة. بلاغة سركيس هي إذاً بلاغة فنّ المعنى على رغم جماليتها ونزقها الشكلي وليست بلاغة الفن للفن. وهو يقول في هذا الصدد وكأنّه يردّ على مَن قد يتهمه بـ «التكلف» : «الفن للفن جميل، ولكنّ الفنّ للحياة أجمل منه».

ويرى سركيس في هذا القبيل أنّ «اللغة الجمالية ليست في ذاتها كياناً مستقلاً إلا إذا أريد بها أن تكون نوعاً من الترف شبه الفارغ». وعلى رغم جمع سركيس لغة الأدب إلى لغة الحياة وربطهما واحدة بالأخرى، فهو حتى في لغة الحياة هذه، لم يتمكّن من التخلّي عن مواصفات النحّات والصائغ الكامنين فيه، ناثراً ومتأملاً ومستفيضاً في مساءلة الوجود. ولئن قال إنّ «آية النحت ألاّ يبدو على الحجر أثره، كأن لا حجر هناك ولا إزميل، بل خفق وجود في قلب حياة»، فهو لم يقدر على التخلّص من وطأة المراس الصعب والدربة الحادّة، وراح يحبك نصّه ويسبكه، حبك النساجين المهرة وسبك الخلاقين البارعين. وهذا ما فتن ميخائيل نعيمة الذي قال عن لغة سركيس إنها «مشرقة الديباجة، جلية المعاني، لطيفة الوقع، وثيقة المنطق». وأيضاً سعيد عقل الذي يتحدّث عن «النضارة في البيان غير العادي» لدى سركيس. هذه اللغة التي بلغت بلا شك أوجها البياني باتت نادرة في عصرنا، بل هي كانت نادرة أصلاً في عصر سركيس، كما يقول حسين مروّة في مقال له عن كاتبنا يرجع إلى عام 1957: «ومن نكد الدنيا أنّ البيان العربي من هذا النمط، قد شحت به أرضنا في هذه الدنيا».

في اللغة والمعنى

الكتابة لدى سركيس هي فعل خلق سواء من «لا شيء» أو من «شيء»، خلق في اللغة وخلق في المعنى. لغته هي ابنة الحرف والروح، والحرف فيها لا يميت لأنّه سليل الكلمة، الكلمة في مفهومها الكينوني واللاهوتي. ومهما صعبت لغة سركيس وانغلقت بنفسها، ومهما تعقدت تراكيبها، فهي تظل لغة الكائن الذي هو أولاً لا آخراً، صاحبها ومبدعها. هكذا يقول سركيس جهاراً «الكلمة بيتي». ولكن هل من الممكن قراءة هذا القول على ضوء البعد الوجودي والأنطولوجي للغة وفق الفيلسوف الألماني هيدغر؟

يمضي سركيس في ترسيخ مقولته عن «الكلمة البيت» قائلاً في أحد حواراته: «الكلمة بيت الكائن كما هو معروف. والكلمة عندي توحّد الفلسفة والأدب في ما يتخطّى المناهج الفكرية إلى كينونة الشيء المؤلَّف. هنا الشيء كائن حيّ يقارب الحياة والموت مقاربة فكرية وجمالية». ولئن قيل إن الأسلوب هو الإنسان، فالإنسان هو أسلوبه أيضاً، وأسلوب سركيس هو شخصه، هو الكائن الماثل فيه. والأسلوب السركيسيّ الشخصيّ جداً لا يخفي ذاكرته اللغوية كما الثقافية والفلسفية.

إنّ لغة سركيس «المؤسلبة»، بمعنى امتلاكها هويتها الأسلوبية الشخصية، هي خلاصة دأب طويل على معاشرة اللغة بكونها لغات شخصية أخرى. فسركيس الناثر الذي هو نسيج وحده ليس صنيع وحده. هو قارئ، في ما تعني القراءة، من تمرّس شخصي في أدب الآخرين ولغاتهم كما في أساليبهم. وهو، كما يعترف أصلاً ابن المدرسة النهضوية، اللبنانية والعربية بخيرة أقلامها، من مثل إبراهيم اليازجي وأحمد فارس الشدياق والبساتنة… فإلى أقلام المقلب الأخير للنهضة المتمثل في جبران وأمين نخلة وطه حسين والمنفلوطي وعمر فاخوري وتوفيق يوسف عوّاد وسعيد عقل… وقد سبقت المدرسة النهضوية، تلمذةٌ على أعلام التراث العربي وفي مقدّمهم الجاحظ وابن المقفع، ناهيك بالقرآن ونهج البلاغة والكتاب المقدّس في صيغتيه العربيتين، الكاثوليكية (إبراهيم اليازجي) والإنجيلية (فاندايك ومعاونوه). إلا أنّ سركيس، الوارث الحقّ لجهابذة العربية والممتحن آثارهم والمشبع بهيامهم الجمالي، شاء أن يبتعد عن مضاربهم، شاقاً طريقه في باطن الكلمة التي هي الشكل والجوهر منصهرين، اللفظ والمعنى ملتحمين التحاماً كينونياً، حتى ليبدو المبنى مفصّلاً على قدْر المعنى، والمعنى محفوراً في قلب المبنى.

يقول سركيس: «تحت اللفظة وقبل اللفظة وأمامها، غاية تتخطى اللفظة إلى أبعاد الكلمة بمعناها الإنساني الأشمل: اللوغوس». وهكذا، تمكّن سركيس من التحرّر من «القيود اللفظيّة» لكي ينأى في العوالم التي تتخذ «الألفاظ سبيلاً إليها». ولعلّ هنا تكمن فرادة الأدب السركيسي، وهنا تكمن صعوبة هذا الأدب الذي لا يسلّم مفاتيحه إلى القارئ بسهولة.

أدب بمثال فلسفي

ليس أدب خليل رامز سركيس بغريب عن الفلسفة، سواء بعلاقته باللغة بكونها «بيتاً» أو «بيت الكائن»، أم عبر الأبعاد الفكرية والماورائية والدينية التي يفيض بها هذا الأدب. واختصر سركيس هذه العلاقة في إحدى جمله: «ولكم تهمي الكلمات، معاني معاني…». وهذه مقولة تذكي نقاشاً لا ختام له حول الصراع بين المفردة والمعنى: هل تسبق المفردة معناها وتصنعها، أم المعنى هو السابق الذي يصنع مفردته؟

الأدب الذي لا يخفي البتة نزعته الفلسفية هو أدب عصيّ على التصنيف. أدب ينحرف عن المثال الرائج للأدب، تاريخاً ونوعاً. لا يكتب سركيس نصّاً سردياً ولا قصيدة ولا مسرحية ولا نثراً فنياً ولا شذرات أو خواطر ولا مذكرات ولا اعترافات ولا سيرة ذاتية. لكنّ كلّ هذه الأنواع تمور في صميم نصوصه، لكونها تنتمي إلى ذاكرة هذا الأدب وإلى لاوعيه، وهما ذاكرة سركيس ولا وعيه، هو القارئ الحقّ، المتمرّس في القراءة تمرّسه في صنعة الأدب. ومن السهل استخراج معجم فلسفي من معظم أدب سركيس، هو نفسه معجم الفلاسفة العقلانيين، لكنه هنا، في عهدة سركيس، أضحى معجماً ذاتياً أو «شخصياً» لأنّ الكاتب يدرك جيداً أنّه ليس فيلسوفاً على غرار أرباب هذا العلم. فهو لا يأخذ بـ «الكوجيتو» ليقول: «أنا أفكر إذاً أنا موجود»، بل هو يؤثر أن يقول: «أنا أؤمن إذاً أنا موجود»، أو: «أنا أتأمّل إذاً أنا موجود»…

لعل من السهل وصف أدب سركيس بالأدب الذي يفكّر. أدب معنيّ بشكله ولغته مقدار اعتنائه بفكره ومحتواه. أدب مسكون بالفلسفة ومهجوس بها، لكنه لا يرغب في أن يؤدي دورها المنهجي والعلمي. يكفي هذا الأدب أن يظل على شفا الفلسفة، أن يطلّ على مشارفها، وأن يغرف منها ما أمكنه فيعيد صوغه على طريقته. هذا أدب «سكران» بالفلسفة، في منأى عن طرائقها وأحابيلها وأبعادها الشديدة التجريد. أكثر ما يهمّه هو السؤال الفلسفي، أما الجواب فليس من السائغ أن يجده ويفرضه على قارئه. لكنّ هذا الأدب لا يسعه إلاّ أن يتضمّن أفكاراً فلسفية يمكن إحصاؤها واستخراجها، وإن افترض هذان، الإحصاء والاستخراج، الكثير من الجهد في أدب يصنع نفسه ويعاود صنع نفسه، بلا كلل أو ملل. ولهذا ربّما يصعب درس أدب سركيس الفلسفي على ضوء المناهج الفلسفية الصرفة، كما لا يمكن أيضاً، في الآن نفسه، إخضاعه للدرس المنهجيّ الأدبي الصرف. وهذا الإشكال لا يقلل البتة من فرادة الأدب السركيسي بل هو يزيده تميزاً وخصوصية. فالكتابة هنا تحفل بطاقة تتجدّد باستمرار، كتابة عمادها الانفتاح على تعدّد المعاني والإيحاءات. أدب يتوالد من نفسه، من قدرته على إنتاج الأفكار وإطلاق الأسئلة وتناول الشؤون والشجون الكثيرة، الإنسانية والدينية. أدب لا يملك أجوبة جاهزة ومسبقة عن أسئلة لا تفتأ تطرح نفسها.

وهذا الثراء الذي يتمتع به أدب سركيس يجعله قابلاً لاحتواء قراءات عدة، وتأويلات تختلف بعضاً عن بعض. هكذا لا يمكن عزل العنصر الفكري عن المادة الأدبية لدى سركيس. الفكر الفلسفي ليس طارئاً عليه وانبثاقه من طويته ليس عَرَضياً أو «صدفوياً» بل هو عنصر أساس من العناصر الجوهرية التي يحتويها أدبه. لقد نجح سركيس في نسج الفكر الفلسفي داخل النسيج الأدبي، المتشابك الخيوط والمتشعب والمتعرّج والملتف على نفسه. وهو استطاع أن يُخضع الفلسفة لحكم الذائقة من غير أن يُضعف مضمونها أو غايتها، وأن يجعلها تجد إحدى حقائقها في الأدب، وإن كانت الحقيقة هذه صامتة وإيحائية. وإذا كان التعرّف على حقيقة الفلسفة في الأدب، ممكناً، فهذا يعني أن الأدب يتضمن حقيقة ما في المعنى الفلسفي، كما يقول بيار ماشيري في كتابه الشهير «بماذا يفكّر الأدب؟».

يستغرق الأدب إذاً في التفكير الفلسفي، وتتعاطى الفلسفة الأدب في إهاب «لذة» النص، وفق رولان بارت. يفكر الأدب بنفسه ليحافظ على جماله، وتفكر الفلسفة بنفسها لتبلور نفسها. أدب سركيس هو أدب ينضح فكراً. والفكر ليس يقوم خارج الشكل الذي يتجلّى فيه، بل هو يتطابق مع هذا الشكل الذي ينعكس عبر الحركة أو الإيقاع الذي يولّده. إنه الالتحام التام بين الرسالة المؤدّاة والوسيلة التي تحملها. وقد يصح الكلام في أدب سركيس عن «الفلسفي» الذي يسبق الفلسفة، «الفلسفي» الذي منه ولدت الفلسفة، «الفلسفي» الفطري أو النسغيّ، إن أمكن القول، الذي يكمن في الكائن منذ أن كان. لا مفاهيم مجرّدة هنا، لا مذاهب نظرية، لا مسائل، لا براهين. الأدب هنا يفتح للفلسفة آفاقاً فلسفية أخرى، قد تكون لا فلسفية. أدب يعيد إلى الفكر الفلسفي قدْراً من «اللعب» لا يضعف البتة مؤداه ولا رسالته، بل هو يحضّه على سلوك طرق غير معهودة، لا تؤدي إلى «لامكان»، طرق تؤدّي إلى أمكنة مجهولة، أو شبه مجهولة، بصفتها أمكنة الذات.

«الأنا» الناطقة والآخر

لم يكن مفاجئاً أن يستهل سركيس نصوصه بـ «الأنا»، أو ضمير المتكلم، فهو في دخيلته على تمام اليقين، بأنّ «الأنا» هي القمينة بأداء دور «الناطق» أو «المعلن» ANNONCIATER، الحامل الكلمة. و «الأنا» لديه هي الآخر مثلما هي «الكلمة» في آن. إنها «الأنا» المنسحقة في إنسانيّتها وفي «شخصانيتها» PERSONNALISME وليست «الأنا» النرجسية، المتضخمة التي تختصر الكون في ذاتها. ليست «الأنا» التي هي البدء والمنتهى، الألف والياء، «الأنا» المتعالية عن الآخر والآخرين، والمختبئة وراء قناع إله أو نبيّ. إنها «الأنا» الشديدة التواضع، المترفّعة عن كل صغيرة وكبيرة، المتوهّجة بالمحبّة، المتأججة بالإيمان. عندما يقول سركيس في مفتتح كتابه «مصير»: «أنا المغامرة الكبرى، وجه المصير»، فإنما يبغي أن يقول: «أنا الإنسان و «ليس «أنا» الشخص المفرد، المنفرد بأنويته. ويوضح لاحقاً هذا القول مضيفاً: «أنا الإنسان لحماً ودماً في طاقة روح». إنها «الأنا» التي أضحت – وتضحي دوماً – «ذاتاً» لأنها على صورة الخالق، كما يعبّر. إنها «أنا» الكائن، الكائن المشخصن، الكائن الذي «هو نقطة البداية» كما يقول لويس لافيل. الكائن الذي لا يُدرك إلاّ في كينونته الصرفة. ويُعرب سركيس عن لا أنانية «الأنا» قائلاً: «إنّ أقرب طريق من نفسي إلى نفسي يمرّ دائماً بالآخرين».

وفي سياق آخر، يجعل سركيس «الأنا» خلاصة البشرية المتحدّرة من الأب الأول، وفق الكتب المقدّسة: «أنا ابن البيت الذي منه تحدّر كلّ آدم». إنها «الأنا» أو «المغامرة الإنسان»، الإنسان الموزّع بين طاقتين: «مادة الكون وجوهر الأله» كما يعبّر كاتبنا. و «الأنا» التي هي «الآخر»، هي الإنسان في صورته الحية، الإنسان البشري، إنسان الجماعة التي لا تفصل بينها تخوم ولا أعراق ولا هويات ولا أديان ولا طوائف. ويجمع سركيس بين الشخصي والجماعي قائلاً: «يا للشخصي الجماعي الحرّ، ملتقى الكائنات في وحدة لا يتجزأ عنصرها. يا لريح البحر تحمل إليّ أنفاس الخليقة كلّها، فأُبعد في الإنسان ما حييت». ويقول أيضاً: «تعال يا أنا، يا جاري، أخي في شرق وجنوب وغرب وشمال. تعال نتعارف، نتفاهم، نتضامن، فنكون، ثم نصير». ومثلما الكينونة تتجلى في «الآخرية»، يتجلى «المصير» في مرآة الجماعة. لا «مصير» فردياً، كما لا كائن «أنوياً». إنّها الفلسفة «الشخصانية» التي اعتنقها سركيس بحرية، اعتناقه «الوجودية» في صيغتها المسيحية بحريّة تامة أيضاً. إنها «شخصانية» الفيلسوف الروسي المسيحي بردياييف القائمة على «حب الآخرين»، والتي بحسبها يبدو الحبّ «فكرة تعبر العالم الموضوعي»، و «نفوذاً في الوجود الداخلي، حيث ينسحب الموضوع ليترك المجال لك أنت. ولذا تتكوّن مملكة الإله في كل حب صادق».

تُرى ألم يقل سركيس: «أكان يوجد الإله لو أن ملكوته ينحصر في خارج الإنسان؟». أمّا إيمانويل مونييه فيقول: «الشخص ليس هيكلاً هندسياً جامداً، إنه يدوم ويجرّب نفسه مع سبر الزمن». وفي هذا الصدد يوضح سركيس: «ما الجسد، في أقدس معانيه، وجهاً لدخيلة الكائن، بقدر ما هو الكائن عينه وقد تحرك، فوجد، فصار»، أو: «نبتدئ، ثم نتوقف فننتهي. أو نبتدئ، فيطّرد سيرنا فندوم». وهذا ما يذكّر بما قاله أبو حيان التوحيدي الذي أخال أن سركيس قرأ كتابه «الإشارات الإلهية»: «الإنسانية أفق والإنسان متحرك إلى أفقه بالطبع ودائر على مركزه».

خليل رامز سركيس رائد الأدب الفلسفي

غيّب الموت أول من أمس، الكاتب والمفكر اللبناني خليل رامز سركيس عن 96 عاماً قضى الردح الأخير منها في لندن بعدما غادر لبنان غداة اندلاع الحرب الأهلية، السبب الذي حمله إلى اغترابه الطويل. ولد عام ١٩٢١ في حيّ زقاق البلاط العريق في شارع خليل سركيس. درس أوّل ما درس في المدرسة النمسوية. تعلّم الخطّ على يد أشهر خطّاطي ذلك العصر كامل البابا، وأتقن العربيّة والفرنسيّة والإنكليزيّة. في العام ١٩٤٢ سلّمه والده، الذي صار نائبًا ووزيرًا للتربية الوطنيّة، إدارة جريدة «لسان الحال»، إضافة إلى مسؤوليّة المطبعة التي أسّسها الجدّ. في ١٩56 أصدر عن منشورات الندوة اللبنانيّة كتابه الأوّل «صوت الغائب»، واستُقبل الكتاب بحفاوة. عام ١٩٥٩ تخلّى عن الجريدة وتفرّغ للكتابة. عام ١٩٥٩ تزوّج جون واكد وأنجبا رامز وميّ. عام ١٩٥٩ صدر له «من لا شيء» عن الندوة اللبنانيّة. بين ١٩٦٠ و١٩٦٢ صدرت له عن الندوة اللبنانيّة مجموعة من الكتب الفكريّة التي تم الترحاب بها في النقد والصحافة.

عام ١٩٨٢ صدرت ترجمته المهمة والرائدة في فن الترجمة «اعترافات جان- جاك روسو»، و تطلّبت منه الترجمة جهدًا جبّارًا، ويقول في هذا الصدد: «ذلك هو الكتاب الذي وقفت على ترجمته شهورًا موصولة السعي والأناة، فعانيت روسو في اعترافاته، فضلاً عن معاناتي إيّاه في سائر مؤلّفاته الرئيسة، أعايشه وأُلابسه وأقوم عنه إليه كأنّي أقاسي شبْه الذي قاسى، من قلق الفطرة وكدر المزاج».

مع اندلاع الحرب الأهلية هاجر سركيس وعائلته الصغيرة إلى لندن وعاش في صمت النسّاك حتّى طرق بابه الشاعر والصحافي محمّد علي فرحات، طالباً منه أن يعود إلى الكتابة بدءاً من حوار شامل معه. ونشرت له «الحياة» لاحقاً نتفًا من سيرته عام ١٩٩٣ جمعت في كتاب صدر عن دار الجديد في العام ذاته تحت عنوان «الهواجس الأقلّية من زقاق البلاط الى كنسنغتون». من العام ١٩٩٣ إلى العام ٢٠١٠ كتب خليل رامز سركيس أو أعاد نشر كتبٍ لم يرد لها أن تعيش في النسيان. وفي ١٩٩٧ صدرت له الرباعيّة، وهي إعادة نشر لكتب كانت صدرت سابقًا، وهي: «جعيتا»، «التراب الآخر»، «زمن البراكين» و «أسير الفراغ». ثم صدر له كتاب «زواج مدني».

أشرف في ٢٠٠٧ على نشر «أقوال وآراء في مؤلّفات خليل رامز سركيس»، ثم «شهادات ورسائل». توفّي في لندن الأحد ٢٧ آب (أغسطس) ٢٠١٧.