دوريان: الإعصار والصورة – بقلم إنعام كجه جي

إنعام كجه جي

لفظ الإعصار دوريان أنفاسه الرهيبة على سواحل أميركا. قتل واقتلع وشرّد وذهب مع الريح. أعاد إلى الذاكرة سُميّه الأشهر دوريان، بطل الرواية الوحيدة للشاعر الآيرلندي أوسكار وايلد. مات المؤلف مريضاً مفلساً مقهوراً في باريس، خريف 1900. واليوم تستعد الأوساط الأدبية للاحتفال بمرور 120 عاماً على صدور «صورة دوريان غراي». رواية ملعونة ومُبجّلة. هل كانت حياة وايلد شيئاً آخر غير إعصار استمر لستة وأربعين عاماً؟
نظر دوريان غراي إلى صورته التي أنجزها الرسام فارتجّ عليه جمالها. سيبقى وجهه في اللوحة شاباً بينما ستأكل الشيخوخة ملامحه الحقيقية. قرر أن يعقد صفقة مع الشيطان. طلب منه أن يحتفظ بشبابه وأن تشيخ اللوحة بدلاً منه. أربكت الفكرة حماة الفضيلة الموجودين في كل زمان ومكان. نعتوا المؤلف بالانحلال وحرضوا النقاد الإنجليز ضده. ما كان ممكناً نكران المستوى الأدبي للنص فطعنوا في الحياة الشخصية للكاتب. سفّهوا أفكاره التي تجعل من الجمال هدفاً وغاية. وبدل أن ينحني أوسكار وايلد منتظراً مرور العاصفة، ردّ على مهاجميه: «ليس هناك من كتاب أخلاقي أو غير أخلاقيّ. إما أن يكون مكتوباً بشكل جيد أولا يكون. نقطة».
تربى وايلد في كنف والدة شاعرة. تمنّت أمه أن تلد بنتاً. ترفقت بالولد وربّته مثل البنات وأطالت شعره حتى سن السابعة. نشأ عاشقاً للفن والأشعار. درس الأدب الكلاسيكي في كلية «ترنتي» العريقة في دبلن ثم في جامعة «أكسفورد». تولع بشابة تدعى فلورنس بالكومب وانتظر انتهاء الدراسة لملاقاتها. ثم بلغه خبر خطبتها للكاتب برام ستوكر، صاحب «دراكيولا». بعث لها برسالة غاضبة جاء فيها أنه لن يضع قدماً في آيرلندا بعد ذلك. كلام ليل يمحوه نهار. عاد إلى دبلن وتزوج صديقة طفولته كونستانس لويد وصار لهما ولد وبنت. اشتغل في الصحافة وكتب مسرحيات ناجحة وعرفت نصوصه طريقها إلى مسارح لندن. لكن ميوله العاطفية انحرفت نحو المثلية. سافر إلى باريس وأقام فترة فيها، ثم في نابولي، وتورط في ملاحقات قضائية مع والد أحد أصدقائه. خسر دعواه ونال حكماً بالشغل لمدة سنتين مع الأشغال، بتهمة اللواط. كم تغيرت بريطانيا في غضون مائة عام!
خرج محطماً بعد أن تنقّل بين ثلاثة سجون. كانت زوجته قد هجرته وذهبت مع ولديها إلى سويسرا. غيّرت لقبهما حماية لهما من الفضيحة. لم يعد أوسكار وايلد ذلك الطاووس طويل الشعر ذا الثياب الزاهية. شاخ قبل صورته وأصيب بداء السحايا. عاد إلى باريس ليقيم في فندق رخيص يقع في 13 من شارع «دي بوزار». يطالع ورق الحائط الكالح في غرفته ويكتب: «إما أن يضمحل هذا الورق أو اضمحل». زاره كاهن ليتلو عليه صلاة الموت ويعيد تعميده كاثوليكياً. كان التقليد أن يحتفلا بشرب الشامبانيا. رفع المحتضر رأسه عن الوسادة وقال: «حتى في موتي أعيش فوق إمكانياتي المالية». دفنوه في قبر من الدرجة السادسة في الضواحي. أعلى بدرجة من الحفرة الجماعية المخصصة للمعدمين. وفي 1909. قبل مائة عام وعشرة، جرى نقل رفاته إلى المربع رقم 89 من مقبرة «بير لاشيز» في باريس، جوار مئات المبدعين. من يومها لم ينقطع زائرو ضريحه.
استوحى الفنان السير جاكوب أبستين شاهدة القبر من ثور آشوري مجنح موجود في المتحف البريطاني، له وجه أوسكار وايلد مع خصيتين كبيرتين. كان الراقد تحت التراب يهوى الحضارات القديمة وله قصيدة عن أبي الهول. ثم تعرضت الشاهدة للتخريب على يد مجهولين. حماة الفضيلة؟.

جريدة الشرق الاوسط