هشام جعيّط .. حفيد الوحش ”أرجوس“ – بقلم أميرة غنيم

7520186n

يُعرف “أرجوس” في الميثولوجيا الإغريقيّة بأنّه العملاق ذو المائة عَين، رُشقت أعينه الثاقبة بدقّة وانتظام في كامل رأسه وجهاً وقفا، حتّى إذا نظر كان مُستطلعاً الجهات الستّ في الوقت نفسه، وإذا نامَ لم يحتج إلى أن يُغمض منها إلاّ نصفها وظلّ النصف الآخر منتبهاً يقظاً.

أورثت العيون المائة “أرجوس” خصالا يتمنّاها كلّ باحثٍ في العموم، وكلّ باحث في العلوم الإنسانيّة وفي الفلسفة والتاريخ على وجه الخصوص: تعدّداً في زوايا النَّظر يحقِّق شموليّة في الرؤية وإحاطةً بالموضوع، واتّساعاً في الآفاق يورِث قدرة فائقة على التركيب والتأليف بين ما اختلف وانتثر وتباعد، وأسباباً ناجعة للتوقّي من دواعي الغفلة والانخداع.

لسببٍ مّا أتذكّر أسطورة “أرجوس” حينَ أفكّر في المنجز الفكريّ للمؤرّخ التونسيّ هشام جعيّط. أتدبّر آثاره في التاريخ، مقالاته الأولى عن الإسلام المبكّر، وبحثه حول الغرب الإسلاميّ في القرن الثاني، وأطروحته حول الكوفة، ثمّ كتابه المَعلَم عن الفتنة الكبرى، وثلاثيّته في السيرة النبويّة، فيكاد يثبتُ عندي أنّه ما خطّ ممّا كتبه حرفاً إلاّ وقد اتّصلت في فكره الأسبابُ بين الأرض والسماء، وبين المُدبر من التاريخ والمُقبل منه، وبين الاتّجاهات الإيديولوجيّة المختلفة يميناً ووسطاً ويساراً.

وأقرأ مباحثه الفكريّة، مقالاته بالفرنسيّة حول جدل الهويّة والمصير، وبحثه “الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة والمصير العربيّ”، وجمعَه في مَقام المُحاورة الرصينة بين “أوروبا والإسلام”، وتشريحه الدقيق لـ” أزمة الثقافة الإسلاميّة”، فيزداد ذهولي من تعدّد رؤاه وتزامنها حتّى لَيُداخل بعضُها بعضاً ويمتزج بعضها ببعض ويتشابك سائرها ممّا لا يتوقّع في العادة اجتماعه عند النّاظر الواحد.

عينُ المفكّر الأبيّ على الأنماطيّة

غير أنّ تلك الرؤية المربكة بثراء روافدها واتّساع مجالها لم تكن دائماً محلّ ثناء. فمَع الاعتراف العربيّ بقيمته مؤرّخاً مُجدِّداً ومفكّراً أصيلاً، تُوجّ إنتاجه العلميّ الغزير بجوائز مرموقة من بينها جائزة العويس الثقافيّة في العام 2007، عُدّ فكره في الغالب متوتّراً قلقاً، وتباينت بشأنه المَواقف وتعارضت الآراء. فقد بجّله بعض الدّارسين فيمَا هاجمه آخرون. ونعتقد أنّ معظم هؤلاء لم يقدّروا على النحو الكافي نظرته الشاملة، فلم يلتقطوا منها إلّا زاوية ضيّقة حبسوا فكره فيها وهُم يحسبونها وجهة نظره الوحيدة.

فمن هؤلاء مَن لم يرَ جعيّط، وهو يقرأ له “الوحي والدعوة والدولة”، إلّا شاخِصاً بعينَيه إلى ما هو فوق، فانبرى يحدِّث الناس عن مفكّرٍ سلفيّ الهوى مُتسربل بغطاءٍ زائف من الحداثة المتصنّعة (المزوغي، “منطق المؤرِّخ”، 2014)، ومنهم من رآه في “تاريخيّة الدعوة المحمّديّة في مكّة” مقتصراً على التحديق في ما هو تحت، مدنِّساً بالمناسبة مقدّسات الناس السماويّة باستنباتها في تربة البشر، فشنّع عليه الاعتداء على مشاعر المسلمين والمسّ بمعتقداتهم، وألحق نتائجه بالمَزاعِم الخرافيّة والأباطيل (علّال، “أباطيل وخرافات”،2008). ولئن كُفّر محمّد عابد الجابري ومحمّد أركون ونصر حامد أبو زيد، وغيرهم من أصحاب الفكر التنويريّ الحداثيّ العقلانيّ، فجعيّط، على حدّ عِلمي، هو المفكّر الوحيد في العالَم العربيّ الذي جمع بين المتناقضين وتأرجح بين المنزلتَين إذ نسبه بعض المحسوبين على الحداثيّين إلى السلفيّة وردّه بعض المحسوبين على السلفيّة إلى الإلحاد.

عينُ المثقّف المستقلّ

لم ينتظر هشام جعيّط مطلع الألفيّة الثالثة وبداية صدور ثلاثيّته عن السيرة النبويّة (1999-2013) ليثير الجدل بفكره الصّادم وخطابه المُتنطّع عن المَسالِك المسطورة والشُعَب المأنوسة. فقد شرعَ مبكّراً في مُصادمة التيّارات الفكريّة على تنوّعها، إذ نُشرت له منذ أواسط السبعينيّات مقالات بالعربيّة والفرنسيّة أثار بها حفيظة التيّارات اليساريّة والليبيراليّة في العالَم العربيّ واستعدى بها أيضاً السلطة الحاكِمة في تونس.

ففي الوقت الذي كان فيه الزعيم الحبيب بورقيبة يسوس الدولة الناشئة بخطاب المؤرّخ العارِف بالوقائع والدّاعي إلى الاعتبار منها، ويحاول استمالة المؤرّخين المُحترفين إلى صفّه لإضفاء الشرعيّة على خطابه، كانَ الشابّ هشام جعيّط يسعى إلى كسر تلك الشرعيّة بخطابٍ مُغايرٍ للخطاب الرسميّ، مستفيداً من الرأسمال الرمزيّ لعائلته الأرستقراطيّة المُعتبَرة من نبلاء تونس ومن شيوخ الإسلام الزيتونيّ من قبل الاستقلال وبُعيده. وظلّت علاقته متوتّرة ببورقيبة وأنصاره من دعاة التحديث، لأنّه لم يتردّد في تقديم رؤيته الشخصيّة بخصوص ما ينبغي أن تكون عليه علاقة الدولة بالدّين، وثمّن دَور الإسلام في تطوير المجتمع، ودعا إلى الإقبال على تجديد الإسلام والإيمان بقدرة الحضارة الإسلاميّة على أن تستعيد عافيتها فتكون منبعاً للنهضة والتجديد. وعابَ على المشروع التحديثيّ التونسيّ إغفاله خصوصيّةَ “الشخصيّة التاريخيّة” التونسيّة، وردّ أزمة المجتمع إلى تقصير الإيديولوجيّات الحاكِمة في إعادة الاعتبار للفكر التاريخيّ في الخطاب العامّ، فخلفَ التغييرات التاريخيّة السطحيّة تكمن بنى جمعيّة لاواعية وخاصيّات نفسيّة عميقة لا بدّ أن تكون في رأيه نقطة انطلاق كلّ مشروع إصلاحيّ.

غير أنّ هذه المواقف التي أورثته حنقَ دعاة التحديث لم تُكسبه أيضاً ودّ دعاة الإصلاح، فقد ظلّ خطابه مختلفاً عن خطاباتهم في شكله ومضمونه ومنهجه وأهدافه، فلا معنى عنده للعودة إلى “الأصول” الأولى وجوهر الإسلام والاقتداء بالسلف الصالح، ولكنّه يلحّ في المقابل على أهميّة الذاكرة في صناعة الوعي، وأهميّة العمق التاريخيّ في بناء الذاكرة. وإذا كان طرحُه لإشكاليّات الهويّة والثقافة والحداثة قائماً في أساسه على إيلاء الموروث الثقافيّ دَوراً مركزيّاً ضمن قطار التقدّم الحضاريّ، فإنّه قاومَ فكر التأصيل الساذج، وجَعَلَ التقدّم العلميّ والإضافة في المجال التكنولوجيّ والإبداع في الأدب والعلوم الإنسانيّة والفنون، القاطرةَ الحقيقيّة للمشروع الحضاريّ العربيّ.

ولعلّ ثراء فكره الفائض عن حدود الخانات المستقرّة المعروفة، ومحاولة الجمهور تصنيفه ضمن ما ألِفوه من أصناف، يفسّران العدائيّة التي قابلته بها التيّارات الإيديولوجيّة السائدة في فترة شبابه الأوّل. فقد كان كلّ تيّارٍ منها يجده، عن باطل، موالياً للتيّار المُعارِض له. وليسَ أدلّ على ذلك من اتّهام بورقيبة له، وهو أستاذ التاريخ الاسلاميّ في الجامعة التونسيّة في بداية السبعينيّات، بأنّه رائد التيّار اليساريّ في الجامعة، في الوقت الذي كان فيه اليساريّون يعتبرونه من الشقّ الآخر.

عزلة النّاظر الواقف خارج الصفّ

لم تلقَ أفكار هشام جعيّط حول النهضة العربيّة، على أصالتها وعمقها، الصدى اللّائق بها في تونس وفي العالَم العربيّ. ولسنا نوافق مَن يردُّ الأمر إلى كتابته جلّ أعماله باللّسان الفرنسيّ، فقد تُرجمت أعماله إلى العربيّة ترجمات جيّدة في الجملة، وإن كان المؤلِّف غير راضٍ عن بعضها، على ما جاء في بعض تصريحاته. ونعتقد أنّ عدم انتمائه إلى تيّارٍ فكريّ محدَّد بسبب خطابه المُختلف المُعارِض للسائد لم يسهّل انتشار فكره وشيوع آرائه. فالأفكارُ الجديدة، ولاسيّما إذا كانت صادمة جريئة، محتاجة إلى أجنحة الجماعة لتحلّق في الفضاءين العامّ والخاصّ. وقد ظلّ جعيّط، من أوّل أمره، مُفتقراً إلى المساندة وإلى شبكةٍ فكريّة أو جماعةٍ علميّة تُشيع مشاريعه وتتبنّاها. ومن الواضح أنّه قابلَ تلك العزلة القهريّة بنبرة لا تخلو من سخط حين اشتكى منتصف السبعينيّات ممّا سمّاه “استقالة الفكر النقديّ التونسيّ”.

أمّا مواقفه المُناهضة لمشروع الوحدة القوميّة العربيّة، فلم تُألِّب عليه الناصريّين والبعثيّين فحسب، بل وسمته عند شقّ كبير من القرّاء في المشرق العربيّ بميْسم الفكر المُتخاذل في ظلّ تعالي منطق التخوين بعد الهزيمة المخزية في حزيران67، فلم يكُن له، تبعاً لذلك، حضورٌ كافٍ في الحوارات المصيريّة التي رسمت ملامحَ الفكر النقديّ العربيّ في فترة مهمّة من تاريخه.

ثمّ بدأ يظهر في المغرب العربيّ جيل جديد من المفكّرين أخذوا يقرأون بعَين النقد الحديث الإرثَ الثقافيّ الإسلاميّ، ويقدّمون قراءة ابستيمولوجيّة عميقة في بنية العقل العربيّ، وهكذا تكوّنت شيئاً فشيئاً مَلامح مدرسة فكريّة جديدة وجد ضمنها فكرُ هشام جعيّط موقعاً جليلاً إلى جانب عبد الله العروي والجابري وأركون، وأسهمت “دار الطليعة” في بيروت في التعريف بأعمال هؤلاء، فانفكّت بذلك عزلة الطائر المنفرد.

عيونُ المؤرخ متعدّد الاختصاصات

أدرك جعيّط مبكّراً جدّاً أنّ اعتمادَ الأدوات التقليديّة في البحث الأكاديميّ وانزواءَ الباحث بين جدران حقله المعرفيّ لا يُمكنهما أن يفضيَا إلاّ إلى اجترار القديم. أمّا التجديد فينبغي أن تتوسّل له الوسائل وتتّخذ إليه السبل، وأخصرُها المزجُ المخصب بين الاختصاصات. ولذلك لم يكُن جعيّط مؤرّخاً فحسب، بل كانت عيونه على الفلسفة والاقتصاد والأنتروبولوجيا وعِلم النَّفس وعِلم الاجتماع والهرمانوطيقا، ومنها جميعاً استرفد منهجه المُخصب في تأويل الوقائع التاريخيّة وتفكيك منطقها الداخليّ وتشريح الذهنيّات المُفضية إليها ومُقارَبة الوعي الذي أنتجها وتحليل ميكانيزمات عقلها المدبّر. وقد أبانت أعماله عن معرفة عميقة بفلسفة التاريخ، واستلهامٍ مثمرٍ لمُكتسبات المدرسة الألمانيّة في مرجعها الهيغليّ أساساً. وظهرت في كتاباته أصوات فيبر وبروديل وبلوك، كما لم يغب منها الاستشهاد بفرويد، وكاردينير الذي اقتبس من نظريّته في “بنية الشخصيّة الأصل” مفهوم الشخصيّة التاريخيّة. وعلى قدر تشبّعه بالثقافة الغربيّة وعيون نصوصها، كانَ جعيّط ملمّاً بالتراث العربيّ، لا في كُتب المغازي والسيَر وأخبار الملوك فحسب، بل في الشعر أيضاً والنثر والفلسفة الإسلاميّة، وبالجملة في كلّ ما رآه بعيون أرجوس مفيداً في بناء فكرٍ يعيشُ بعد صاحبه قروناً طويلة ويرمي ولو حجراً واحداً في نهرِ الحضارة الرّاكد.

عطاء العُلماء

تروي الأسطورة أنّ أرجوس كان الحارس الشخصيّ للإلهة هيرا. فلمّا قتله هرمز بأمرٍ من كبير الآلهة زيوس، أحبّت هيرا تكريمه وتخليد ذكراه فنثرت عيونه المائة على ريش طائرها المفضّل الطاووس، وأورثها الطاووس أحفاده فهي إلى اليوم توشّي ريشهم المزركش. وشبيهة بهذا حال العلماء من أحفاد أرجوس، يحرسون المَعرفة من براثن الجهل ما عاشوا، ولا يهابون الفناء لأنّهم ينثرون خلال حياتهم بسخاء العلماء عيونهم الكثيرة في الأجيال اللّاحقة.

أجيالٌ متباينة كتباين الريش في ذيل الطاووس، بعضهم يعترفُ بالفضل لصاحب الفضل، وبعضهم، كهؤلاء الذين يشكو جحودهم اليوم هشام جعيّط، يُنكر أستاذه… ويتطاوس..

جريدة أفق