«ثقافتنا السعودية» الجديدة – بقلم محمد المزيني

محمد المزيني

كتبت في هذه الزاوية مراراً عن حاجتنا الماسة لأن تصبح لدينا وزارة تعنى بالملف الثقافي، بعدما استحكمت حلقاته على وزارة الإعلام، وبات عصياً عليها التعامل معه برؤية أكثر انفتاحاً واستيعاباً، لأن الثقافة قوة ناعمة، لكنها أحياناً تحمل وجوهاً يسكنها التمرّد والاحجام، فهي ليست تماماً كالإعلام الخاضع لقيم العرض والطلب، ومن أهم متطلباته فهم العلاقات الوطيدة بين المستقبل والمرسل، والقدرة على صياغة الرسالة وفهم وتحليل قدرتها على التأثير، فالثقافة تكاد تختلف تماماً لأنها بحد ذاتها مسكونة بالإبداع، ومن خصائصها أنها لا تنفك عن القلق الذي يساكنها، كما لا يمكن أن تنزع ذاتها من قيم النقد الذاتي وفلكها الذي تدور فيه، لهذا تعثّرت وزارة الثقافة والإعلام -آنذاك- عن استيعاب هذه الخصوصية الثقافية، أو لنقل عن تخصيص الوقت والموازنة الكافيين لدعم هذا الحراك الثقافي، فإن قلنا إن الإعلام يتجه إلى جمهور ساكن مستقر برسالة مصطنعة تستبطن المتعة من داخلها، فإن الثقافة لا تقبل ذات الأسلوب الاصطناعي، لأن الجمهور الثقافي، أو لنقل المتعطش للثقافة على مختلف ألوانها وأشكالها، يمتلك جزءاً من أدواتها، فهو لا ينتظر فقط التأثر باتجاه واحد إنما التأثير أيضاً.

لذلك، اصطدمت لغة الاعلام بلغة الثقافة، حتى بات هناك ما يعرف بالفصام النكد بينهما، أحدث مظاهر سيئة للشكل الثقافي الذي كنا نتمنى من وزارة الثقافة والإعلام أن تقود دفته بوعي كامل بحساسية هذا الملف. لن أستعيد تاريخ الصراعات القريبة التي عطلت جزءاً كبيراً من الحراك الثقافي، فاستبشارنا بوزارة الثقافة أنسانا كل ذاك الماضي، والمشاريع العملاقة التي أطلقتها والمتمثلة في رؤيتها المستقبلية التي ستستوعبها الاستراتيجيات التي ستعمل على تحقيقها تثلج الصدور، وتعدنا بمستقبل ثقافي مختلف، ولكن قبل أن أبحر في «رؤيتي الخاصة» بما قدمته الوزارة حتى الآن كنت أتمنى أن تتضمن هذه «الرؤية» صياغة مفهوم جديد وواقعي للثقافة يجيب عن السؤال الكبير جداً: ما هي الثقافة؟ فهل الثقافة مبانٍ أم فعاليات أم مثقفون أم هو ناتج ثقافي معرفي أم هي تشتمل على كل هذه الأشياء؟ هذا السؤال أيضا يقودنا إلى سؤال آخر عن أهداف الوزارة الثقافية: هل هي تريد فقط أن تقدم برامج شعبية تملأ فراغ الناس كتلك البرامج التي تقدمها مثلاً «هيئة الترفيه» حتى الآن؟ سؤالي الثالث عن دور المثقفين في هذه الرؤية، فهم المعادلة الأصعب في كل هذه العملية، لأنهم ليسوا شكلاً أو مادة يسهل استخدامها والانتفاع بها لتحقيق أهداف الرؤية ما لم تكن تخدم الفكرة ذات الأبعاد المختلفة، ولكي لا تقع وزارة الثقافة في فخ المثقفين فعليها أن توقد جذوة التفاعل معهم وبينهم، وأن يكونوا مشاركين لها فعلياً في صياغة رؤيتها وتحقيقها، وألا تكتفي فقط بالانتقائية كما حدث في لقاء الوزير بنخبة من المثقفين دون أخرى، وكما حدث في دعوات حفل تدشين الوزارة لرؤيتها التي حضرها كثير ممن لا ينتسبون إلى حرم الثقافة، وحرم منها كثير من المثقفين الذين كانت لهم إسهاماتهم الكبيرة وقدّموا صوراً مشرفة لهذا الوطن عبر كل المحافل الثقافية.

علقت على تغريدة أحد الأصدقاء الإعلاميين المثقفين ممن حُرموا متعة حضور تدشين هذه الرؤية قائلاً: إن الوزير الشاب المتطلع لفعل ثقافي متميز يضع خطواته الأولى على سلم الاكتشاف، اكتشاف البيئة الثقافية التي مرت بحقب تاريخية تمخضت عن صراعات بعضها أثرى الساحة الثقافية وبعضها أساء لها، ولهذا قدمت بين يدي هذا النقاش ثلاثة أسئلة، وقلت إن أهمها دور المثقفين في هذه الرؤية، ولكي لا تتعثر النوايا الطيبة فإن من الأهمية بمكان دراسة البيئة الثقافية بالمملكة العربية السعودية دراسة متأنية، والبحث في عمق متطلباتها الحقيقية، وقدرتها على استيعاب كل المشاريع التي أعلنت عنها الوزارة، فكما قلت ان هذه المشاريع لا تركز على التسلية والمتعة قدر تركيزها على خلق فضاءات ثقافية جديدة ترمّم العلاقات بين المبدعين وتستحث قدراتهم على إنتاج مادة جيدة تخدم «رؤية التحول» وبرامجها التي تمر بها بلادنا اليوم، اللافت في رؤية وزارة الثقافة أنها طرحت مشاريعها الثقافية الضخمة التي سيكلف تحقيقها أموال ضخمة وتستحق الثقافة كل هذا، وكي لا تضيع كل هذه الجهود الطيبة هباءً منثوراً فأمام وزارة الثقافة مشروع آخر مهم يتمثل في إشاعة الثقافة وتطبيعها في حياة الناس من خلال اتفاقات تبرم مع مؤسسات التعليم المختلفة من أجل إحياء المسرح والقيام بالفعاليات الثقافية المتنوعة، وإقامة المسابقات والورش والدورات بين حقول التعليم المختلفة، وكذلك إعادة ضخ الحياة لمراكزنا الثقافية «شبه» الميتة، التي اكتفت جهلاً أو عجزاً بأداء أدور وظيفية روتينية غير عابئة بدورها الآخر المهم، المتمثل برسالتها المنوطة بها تجاه المجتمع.

كم أتمنى أن تكون بيوت الثقافة هي المشروع الأول للوزارة الذي يدشن سريعاً، كي تحل من عقدة الأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون، وتستعيض عنها بجمعيات نوعية لكل الفنون، ومن خلالها يمكن تصميم مبادرات ثقافية متنوعة محلية وخارجية، ونحن على يقين تام بأن وزارة الثقافة في رؤيتها المختلفة ستنهض بالحراك الثقافي السعودي ليصل إلى مستوى العالمية، وهو ما تشي به هذه الرؤية المباركة.

جريدة الحياة