البحرين هِبةُ اللؤلؤ – بقلم أحمد الشهاوي

2722019

البلاد التى نسافر إليها تكون عادةً مُستعصيةً على الفهم، ومُستغلقةً لبعض الوقت- يطول أو يقصر- وتحتاج منَّا إلى أسفارٍ متعدِّدة؛ كى نفقهها، ونجيب عن سؤالها أو أسئلتها المباشرة والرمزية التى تُعنَى بما وراء الأشياء، كى تمنحنا مفتاحها أو مفاتيحها؛ وكى ندخلها، أو تدخل فينا بسلاسةٍ ويُسرٍ، لكنَّ البحرين أرضٌ مختلفةٌ، فبمجرَّد النزول والمرُور على أرض جُزرِها العديدة، والمتباينة الأحجام والأعراق، تسلِّمُك مفاتيحها كهديةٍ، وهبةٍ لا تُرد، تعطيك السِّعة والسعادة والأمان بهدوءٍ وحُب طواعيةً، وتظل عذراءَ، كأنها خارجة للتو من صدفة لؤلؤةٍ نادرة، اصطيدت منذ حوالى عام 2000 قبل الميلاد، وهو تاريخ بدء صيد اللؤلؤ فى البحرين، هل لأن أراضيها سهلية منبسطة، لا تعرف خيانة الجبال وتهورها، وقد ساعدت الجغرافية أن تمنح أهل البحرين سماحةً، وصفاءً مثل لؤلؤهم الأبيض الناصع اللون كقلوبهم، وسِعةَ قلبٍ، ووصلا مع الآخر الغريب، وامتدادًا كحبلٍ متينٍ من الود والتراحم والخَلْق والمنْح، أم لأن الأساطيرَ فيها تنام على سرير الواقع مشكِّلةً معه توءمةً وحلولا واتحادًا، أم لأن «شجرة الحياة» التى تُعبِّر عن الخلود والخُصوبة، التى جاء ذكرُها فى سفر التكوين، تنبت من يد كلِّ إنسان تسلم عليه، حيث يصافحك بيمين قلبه؟!

«شجرة الحياة» البحرينية تقع فى صحراء الصخير جنوب البحرين، على بُعد خمسةٍ وثلاثين كيلومترًا عن العاصمة المنامة، وعاشت أربعة أو خمسة قرون تقاوم العطش، كأنها تسقِى نفسها من ماء قلبها، كعادة أهلها.

ورُبَّما يعودُ ذلك إلى عُمقها التاريخى، وتعدُّد طبقات حضاراتها، وتجذُّرها فى التاريخ الإنسانى، وعلو مكانة مثقفيها ومبدعيها، وقبول أهلها للآخر منذ آلاف السنين، وقدرتها على الاستيعاب، وتذويب من يرتادها فى ماء زهرِها.

وأهل البحرين- بالفعل- كلؤلؤها لا يحتاج المرءُ إلى صقلٍ أو تلميعٍ؛ لأنه خُلق طبيعيًّا فى شفافيته، وليس فى حاجة إلى تدخُّلٍ خارجى من يدٍ أخرى.

فعلى الرغم من أن البحرين هى آخرُ دولةٍ فى الخليج والجزيرة العربية أزورها، وأن رحلتى إليها كانت قصيرةً، فإنها منحتنى المِفتاح منذ نزولى إليها فى منتصف ليل أحد أيام فبراير من سنة 2019 ميلادية، وعند العودة إلى القاهرة لم تطلب منى إعادة المفتاح، بل طلبت منى العودة من جديدٍ؛ لأكونَ قادرًا على تعرُّف وجوهها، وقراءة تاريخها، وبشرها، وأحجارها، وبحرها الملآن بحكاياتٍ وأساطيرَ تؤرِّخ للإنسان والمكان معًا.

وإذا كانت مملكة البحرين هى أصغرُ دولةٍ عربية مساحةً- كما تشير كتب الجغرافية- فإنها عميقةٌ فى تاريخها، ممتدة فى الزمان، وقعتْ على أرضها حوادث مهمة فى التاريخ الإسلامى، وهى عندى كبيرةٌ فى حركة الثقافة والكتابة فيها منذ ثلاثين عامًا على الأقل، حيث قدَّمت لنا مجلة «كلمات»، والكتَاب الصادر عنها، واستضافت على أرضها أهم العقول العربية والأجنبية، والتقى فى جامعتها أبرز الأكاديميين العرب، وقد استمرت النهضة الثقافية مع دخول الشيخة مى بنت محمد آل خليفة الباحثة والكاتبة والأكاديمية مُعترك الواقع الثقافى كوزيرةٍ للثقافة، التى استطاعت أن تضيف، وتسهم وتُشكِّل رافدًا مُهِمًّا لنهضة حركة الإبداع والثقافة، كما أن دورَها غير الحكومى فى الحفاظ على البيوت القديمة، وترميمها، وجعلها مراكز للفن والموسيقى والشعر والفكر، غير مسبوقٍ فى بلداننا العربية.

وقد دعتنى الشيخة مى بنت محمد آل خليفة؛ لأكون ضيفًا شعريًّا على مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث، بحيث تكون أمسيّتى فى بيت الشعر (بيت الشاعر إبراهيم العريض).

المصري اليوم