حلاوة المبادرة الذاتية – بقلم خالد القشطيني

15520.8

هناك مدينتان صغيرتان في العراق اشتهرتا في أذهان العراقيين رغم صغرهما وبعدهما عن العاصمة بغداد. اشتهرت واحدة منهما وارتبطت في الأذهان بأسوأ شخصية ظهرت في العصر الحديث. إنها مدينة تكريت التي خرج منها صدام حسين. المدينة الصغيرة الثانية عرفت رغم قلة نفوسها بباقة من الشعراء والأدباء والمفكرين، إنها مدينة السماوة الواقعة على نهر الفرات.
يكثر الحديث في هذه الأيام عن إعادة بناء العراق بمؤسساته ومدارسه ومستشفياته. يكثر الحديث عن الاعتماد على النفس والمبادرة الفردية حتى تعود الأمور إلى مجاريها المشرفة. ما أجدرهم بأن يتذكروا تلك المبادرة الرائدة التي قام بها سكان هذه المدينة الصغيرة، السماوة، لتعليم أولادهم.
عندما استقل العراق عن الإمبراطورية العثمانية، لم تكن في كل العراق غير مدرستين ثانويتين، واحدة مدنية، إعدادي ملكي، وأخرى عسكرية، إعدادي عسكري. وبقي العراق المستقل لعدة سنوات لا يملك غير مدرسة ثانوية واحدة في بغداد. ثم جرت توسيعات تعليمية تدريجية. بيد أن المدن الصغيرة كالسماوة بقيت محرومة من الدراسة الثانوية. كانت العوائل الطموحة تبعث أولادها للدراسة في مدينة قريبة. وكان الأمر مكلفاً. كانوا أحياناً يضطرون لإرسال أولادهم عند أقاربهم.
شعر بهذه المشكلة أهالي السماوة. وجدوا أن الحل هو أن تؤسس مدرسة متوسطة بحيث لا يحتاج الأولاد للسفر لمدينة أخرى. ولكن العراق كان بلداً فقيراً ولم تتسع الدولة لبناء مدرسة متوسطة. ها هو المجال الذي يتطلب الاعتماد على النفس. كان من وجهاء البلد عباس الحذاف. جمع أخيار المدينة واقترح عليهم بناء هذه المدرسة من أموالهم. كان له متجر تباع فيه حاصلات المنطقة. اقترح القوم أن يقتطع درهم واحد من كل جزة صوف في المتجر ومائة درهم عن كل تنكة دهن ورأس خروف. تجمع هذه الدراهم باسم مشروع متوسطة السماوة. وهذا ما جرى ودفع الناس هذه الضريبة طوعاً وبكل ممنونية. إنها لفائدة أولادهم وأولاد الجميع. كانت أيام خير والناس يسعون للخير.
وبعد أن تجمع بيد الحاج عباس المبلغ الكافي شرعوا بالبناء، من صفين فقط كبداية. انتهى البناء. ماذا عن المعلمين؟ تطوع طبيب المدينة بتقديم دروس الإنجليزية مجاناً وتطوع أمين صندوق القائمقامية بتدريس الحساب. جمعوا في الأخير عدداً كافياً من مثقفي السماوة ليؤدوا الدروس المختلفة. ماذا عن الأثاث؟ ولا يهم! لا حاجة للرحلات. الأولاد يجلسون على الأرض. واستطاعوا الحصول على سبورتين من مديرية معارف الديوانية. وبدأ الأولاد بالانخراط والمعلمون المتطوعون بالتدريس. وكلما تجاوزوا سنة بنوا للمدرسة صفاً آخر حتى اكتملت الصفوف. وعندما سمعت وزارة المعارف بهذه الجهود وهذا الحرص بادرت لتعيين مدرسين محترفين على حساب الوزارة. لم تمض سنوات حتى قامت النساء بمشروع مشابه لمدرسة بنات. كانت تجربة رائعة في الاعتماد على النفس وعدم الاتكال على الدولة. وفي كل ذلك دروس لكل من يسعى لبناء وطنه وسد الثغرات في الكيان العام.

جريدة الشرق الاوسط