هل الرواية الجديدة جنس أدبي مشوّه؟ – بقلم هيثم حسين

هيثم حسين
التراكم المعرفي والأدبي والفني يلعب دورا كبيرا في بلورة الصيغ والأساليب بالنسبة للأدباء.

هل هناك تعريف مدرسي جامع للرواية الجديدة التي تبدو وكأنها جنس أدبي يفتقر للتعريف؟ هل يظهر بعض الروايات كجنس يتكئ على الأجناس الأدبية من دون أن ينتسب إليها؛ جنس يفتقر للتجنيس أساسا؟

لربما أمكن النظر إلى الرواية الجديدة على أنها جنس أدبي مشوّه، يتم دس كل ما يخطر على بال الكاتب فيها، سواء كانت أفكارا أو خيالات أو خواطر، وكلها تندرج في سياق السرد المفتوح، أو التداعي الحر الذي يتبدّى مقيّدا بالجهل بأدوات السرد وغارقا فيه.

يلعب التراكم المعرفي والأدبي والفني دورا كبيرا في بلورة الصيغ والأساليب بالنسبة للأدباء، بحيث أن التراكم يفترض إنتاجا لاحقا لافتا بعيدا عن الادعاء والجعجعة وافتعال الضجيج، وبعيدا عن الجهل بأسرار وألغاز الجنس الأدبي الذي يخوض غماره.

يلاحظ المتابع أنّ هناك استسهالا كبيرا في عالم الفن الروائي وتجرّؤا جليّا على اقتحامه من قبل بعض ممن يحاولون ترقيع جهلهم بتاريخ هذه الفن، ونسبه إلى تعاليهم على ما بات كلاسيكيا بنظرهم، وتحويرهم للحقائق لتتناسب مع ما يصدرونه من بضاعة، بذريعة التجديد والتثوير والابتكار.

لعل الحراك الذي خلقته الجوائز والمسابقات المخصصة للرواية ساهمت، عن حسن نية ورغبة بتقدير الفن الروائي وإيلاء الاعتبار الكبير له، بدور في زيادة التهافت على التقدّم والتخلّص من الأعمال وسلقها قبل إنضاجها على مهل، طمعا بالمبلغ المادي، وطموحا للشهرة المفترضة –وهذا من حقوق الكاتب الذي يفترض التقدير ويبحث عنه– ما ينعكس سلبا على الرواية، حيث يتمّ تقديم أعمال أقرب للمسودات التي تحتاج مراجعات تالية من صاحبها قبل الدفع بها للناشر، أو للجائزة، إذا كانت تقبل الأعمال المخطوطة.

وفي هذا السياق يكون الحرص من قبل بعضهم على تضخيم عدد الصفحات للإيحاء بأن الحجم الكبير يعكس مدى أهمية الرواية وثرائها.

كما يمكن النظر إلى الرواية -التي يتم تصديرها على أنها الجديدة- على أنها تمرّدت على الصيغ والقوالب الكلاسيكية وتحاول ابتكار أدواتها المختلفة، ويكون الخلط بين الأساليب والأفكار محاولة تجريبية للبحث عن الصيغة التي يتأمل، أو يحلم صاحبها، أنها قد تكون المثلى، أو تقترب من محاكاتها.

وفي الحالين الأوهام تقود كثيرا من الروائيين، وممن ألقوا بأنفسهم في هذا الحقل الشائك من دون دراية بفنياته واستراتيجياته، بشكل أكثر شراسة وقوة من الأحلام نفسها.

والأوهام تزداد خطورة على أصحابها حين يصدقون أنهم أصبحوا نجوما وقادة رأي في المجتمع، وأن ما سلكوه من مسلك، وما حققوه من شهرة وظهور، كان بناء على استحقاقات هم أهلها، وتصورات قاموا ببلورتها بطريقتهم السريعة الدعائية.

المفارقة المثيرة للسخرية هي أن الدعوة للتمرد والتجريب والتجديد من قبل بعضهم تكون جاهلة بما يفترض بأنهم يتمردون عليه

كانت الإنكليزية ماري شيلي (1797 – 1851) في الثامنة عشرة من عمرها حين بدأت بكتابة روايتها التي ما تزال تأثيراتها تتجدد في الكتابة الروائية منذ صدورها منذ أكثر من قرنين، ونشرت الطبعة الأولى منها دون إعلان هويتها عندما كانت في العشرين من عمرها. وظهر اسمها لأول مرة في الطبعة الثانية التي نشرت في فرنسا عام 1823.

لم تكن شيلي مقودة بالأوهام أو مسكونة بها، ولعلها لم تكن لتحلم من جهة أخرى بأن تخط بعملها مسارا روائيا جديدا، وقد يفترض أحدنا أن عمرها الصغير لم يكن قد كفل لها التراكم المنشود، ولكنها بالرغم من ذلك عوضت ذلك بفرادتها وتميّزها وابتكارها.

أبدعت شيلي في تصوير التشوّه، بعمل متكامل، وكان التشوّه إحدى وسائلها المساعدة لرصد لقطات وابتداع شخصيات تبقى حاضرة في الأذهان، ومتمتعة بالمعاصرة والتجدد عند كل قراءة أو ترجمة أو تجسيد فني أو درامي.

قد يثير ذلك نوعا من الإيحاء بالتناقض المضمر في ثنايا الحديث عن التراكم والخبرة والأوهام المفترضة، لكن من المفيد الإشارة إلى أن الإبداع لا يقيد، ويستحيل فرض مقاييس تحاصره، لأنه يتفجر ويخط لنفسه مسارات جديدة كل مرة، وهذا لا يتأتى لأي مغامر في هذا الميدان بسهولة ويسر.

بالموازاة مع التراكم المعرفي هناك ما يتم تصديره تجاوزا على أنه تمرّد أدبي، وكأن التراكم يقتضي قطيعة معرفية، أو مقاطعة للسلف بحجة التجديد والتجريب، وبحالة تتناسب مع عبثية الطرح والمعالجة، بحيث يكون تسخيف السابق بمناسبة ومن دون مناسبة أداة ووسيلة للدعاية الشخصية السطحية.

والمفارقة المثيرة للسخرية والاستهزاء والرثاء معا، هي أن الدعوة للتمرد والتجريب والتجديد من قبل بعضهم تكون مصحوبة، أو غارقة بجهل الداعي؛ المدعي، لما يفترض بأنه يتمرّد عليه، والجاهل لتعريفه وتوصيفه بالشكل الأنسب، لأنه غير ملمّ بتاريخه، ويظن أن مزاعم القطيعة مع السابق تكفل له وضع اسمه في خانة المتمردين المجربين المجددين.. أي تجديد قد يتحقق أو ينجز والجهل بالقديم يعمي ويمضي بأدعياء التجريب إلى بركة ضحلة يظنونها محيطا شاسعا!

يكمن الفرق في زاوية النظر، وفي الخبرة والتجربة، وليس بالثقة الزائفة التي تضلل المتمرّد عن جهل وتقنعه أنه العالم بأسرار الفن الروائي وألغازه.

ولا يخفى أنه كلما ازداد المرء علما وخبرة ومرانا وتمرسا ازداد تواضعا وتفهّما للواقع، وأدرك أنه ذرّة تائهة في هذا العالم الفسيح.

صحيفة العرب