الصورة الثالثة لنجيب محفوظ التي غفل عنها ناقدوه – أحمد رجب

logofornews
نجيب محفوظ كان في حواراته ناقدا متمكنا من مقولاته وصيغه النقدية، ملما بعناصر ثقافية عامة ونقدية خاصة جعلت منه ناقدا متمكنا.
 “لو تصورت نفسي ناقدا، فإنني أفضل أن أسير إلى العمل الأدبي واضعا فلسفتي وراء ظهري لا أمامي، وأن أقدر العمل كإنسان له فلسفته، لا كفيلسوف فذّ لا يخلو من إنسانية” هكذا أوجز الأديب الراحل نجيب محفوظ رؤيته للنقد وللناقد في كلمات قليلة أبانت أيضا عن المنهج الذي اتبعه محفوظ في تعامله كقارئ مع النصوص الأدبية، وهو المنهج الذي حاول الدكتور تامر فايز استكشافه في أحدث كتبه “نجيب محفوظ ناقدا.. مقاربة تأويلية لحواراته في المجلات الأدبية”.

 يرى فايز أن نجيب محفوظ في حواراته كان ناقدا متمكنا من مقولاته وصيغه النقدية، ملما بعناصر ثقافية عامة ونقدية خاصة جعلت منه ناقدا متمكنا، وهي الصورة التي يحاول الكتاب الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2018، أن يكشفها عبر صفحاته محللا ثلاثين حوارا أجريت مع محفوظ خلال الفترة من 1957 حتى عام 2005، أي قرابة نصف قرن، وهي  فترة تمثل زخم الثقافة العربية على تشعب مكوناتها وعلى رأسها المكونين الإبداعي والنقدي.

ثلاث صور لمحفوظ

تعامل تامر فايز في كتابه مع حوارات نجيب محفوظ باعتبارها خطابات من نوع مخصوص، تحمل في ثناياها الصورة الحقيقية لمحفوظ وهي صورة ثالثة تختلف عن صورتين شائعتين له على مستويي الذات والإبداع، فمن ناحية الذات (شخصية نجيب محفوظ) فقد تم تصدير صورة ما له بعد فوزه بجائزة نوبل 1988؛ وهي صورة اتسمت بالكثير من المغالطات، لا سيما في ما وصل للعوام الذين يعرفونه عن طريق الأفلام التي قدمتها السينما عن رواياته، فأشيع أنه مسيحي وأنه يكتب ضد الإسلام. أما الصورة الثانية فتشكلت لدى القراء الذين بحثوا عن سيرته في ثنايا رواياته.

 أما على مستوى الإبداع فقد ظهرت أيضا صورتان له، الأولى انعكست في أذهان عامة المتلقين لأعماله، كما ظهرت في السينما، وقد لامست لديهم الأوتار الحساسة سواء كانت عقائدية أو اجتماعية أو سياسية، والثانية  تشكلت في وعي المثقفين الذين لم يتعرضوا للعبث في أفكارهم بنجيب محفوظ وفكره كما تعرض العوام، وهذا أكسب الحوارات مع محفوظ قيمة كبرى، فقد تناثرت عبرها ملامح الصورة الثالثة لنجيب محفوظ ناقدا، وقد بدأ مؤلف الكتاب محاولته لتجميع ملامح تلك الصورة بالتوقف عند اختلاف النقاد حول كتابة محفوظ لسيرته الذاتية، فمثلا غالي شكري رآه واحدا ممن سعوا لسرد الذات معتمدا على تصريح للروائي الكبير بأنه هو كمال في الثلاثية، بينما محمد بدوي يذهب إلى أن محفوظ بدأ بنفي ذاته عن الكتابة وتمويهها، وآخرون سايروه وتحدثوا عن مفارقة تتمثل في أن الرجل الذي أدمن سرد حيوات الناس وترميزها وإثقالها بالمعاني لم يتحدث مرة واحدة عن نفسه بوضوح وحسم.

ويختلف المؤلف مع كلا الرأيين، فقد اعتمدا على قراءة تجزيئية في فهم السرد/ النقد ذاتي لدى نجيب محفوظ، بينما القراءة التكاملية تكشف بجلاء عن أهم ملامح نجيب محفوظ الذاتية، فالقراءة لحواراته تكشف عن حضور الجانب الذاتي والعائلي والثقافي والسياسي لديه، كما ظهر محفوظ في أغلب هذه الحوارات ناقدا ومنظرا، فقد صاغ نظرية شبه متكاملة للإبداع الروائي مستفيدا من خبراته الإبداعية التطبيقية ومن قراءاته.

فخاخ للنقاد

ذكر غارسيا ماركيز مرة أنه كان يتعمد أن يصنع في رواياته فخاخا للنقاد، وكان يسعده أن يقعوا فيها، لكن نجيب محفوظ ودون تعمد بث في حواراته فخاخا لنقاده، تلك الفخاخ العفوية بدت آثارها في ما كتبه النقاد عن محفوظ، ورصد تامر فايز بعضه في فصل مستقل عن “تأثيرات النقد المحفوظي في النقد الأدبي العربي”، فيذكر أن هذه الحوارات شكلت مرتكزا أساسيا اعتمد عليه النقاد في إصدار أحكام نقدية سواء لصالح شخص وأدب نجيب محفوظ أو ضدهما.

 ومن الدراسات التي أفادت كثيرا من تلك الحوارات، كتاب “المنتمي” لغالي شكري حيث اعتمد الناقد على تصريح نجيب محفوظ في حواراته بأنه هو كمال عبدالجواد في الثلاثية، في بناء فرضيته الأساسية القائمة على  فكرة الانتماء، كما كانت تصريحات محفوظ مؤثرة كذلك في القضايا الفرعية التي ناقشها كتاب المنتمي.

 ومن الدراسات التي تأثرت في أحكامها القيمية والجمالية بالحوارات دراسة إدوار الخراط “نجيب محفوظ: القدرية كموقف من الكون”، فقد اعتمد على قول نجيب محفوظ إن رواياته التاريخية الأولى كانت تتمسك بقضايا الحاضر، لينفي عن تلك الروايات صفتي التاريخية والرومانتيكية، وحكم على أسلوب نجيب محفوظ في تلك الفترة بأنه تقليدي قديم وجاحظي، وقد استعرض الكاتب دراسات أخرى لنقاد آخرين بنوا فرضياتهم وأحكامهم تحت تأثير واع أو غير واع لتلك الحوارات. وهنا يتساءل الكاتب عن موضوعية ومنهجية الاتكاء على أراء المبدعين وتصريحاتهم في تحليل أعمالهم الإبداعية، ويرى ضرورة التفرقة بين المبدع الصرف، والمبدع الناقد، أي المتمكن من أدواته النقدية التي تمكنه من التعامل مع الأعمال الإبداعية من وجهة نظر نقدية، وهي غير وجهة النظر الإبداعية التي تشغله حينما يمارس الإبداع.

وقد كشفت إجابات نجيب محفوظ عن تساؤلات محاوريه حول امتلاكه لهذه الأدوات بما لا يقل عن أي ناقد من نقاد عصره، فقد امتلك القدرة على صياغة رؤاه العامة حول الفنون والآداب، بالإضافة إلى قدرته على الربط بين مقولاته التنظيرية وتطبيقاته على مجموعة النصوص والظواهر بما يثبت وعيه الدقيق بماهية تلك المصطلحات، فقد تجلى نجيب محفوظ في حواراته مثقفا عاما ملما بكافة جوانب حضارته بل والحضارات الأخرى، يجمع في خلفياته الثقافية بين التوجهين، الغربي والعربي، وهو ما أسهم في تخليق صوره النقدية التي ظهر عليها فتمكن من نقد الثقافة والفنون والآداب، لذاته ولمبدعين آخرين.

هناك نقاد مازالوا إلى يومنا هذا يدمجون شخص الكاتب بنصه، وهو ما يرفضه نقاد آخرون، لكنهم بدورهم يسقطون في استنباط أحكام مما يقوله الكاتب في حوارات أو لقاءات أو غيرها، وهو ما يجانب الصواب أحيانا، إذ الكاتب شخص متشعب، لا يمكن حصره في صورة أو جسد واحد.

صحيفة العرب