نجيب محفوظ والميلودراما – بقلم أمير العمري

أمير العمري
من دون فلسفة نجيب محفوظ والدلالات الاجتماعية والفلسفية في رواياته، تصبح الحبكة “ميلودرامية”، ومن هنا كانت جاذبية هذه الأعمال للسينما.

ترى ما هو سر اهتمام السينما المصرية الكبير بروايات نجيب محفوظ؟ هذا السؤال كان دائما يشغلني. وكنت أقرأ وأشاهد الأفلام وأتوقف لأتساءل: لماذا كان نجيب محفوظ يكتب الرواية ويصدرها وسرعان ما تجد طريقها إلى شاشة السينما؟ ما سر جاذبية روايات نجيب محفوظ التي تجعل كتاب السيناريو والمخرجين يرون فيها مادة سينمائية جيدة لأفلامهم؟ ولماذا كانت هذه الأفلام تحقق كل ما حققته من نجاح تجاري مع جمهور السينما من الطبقة الشعبية وفي الوقت نفسه مع جمهور النخبة المثقفة التي قد تميل إلى الأعمال المركبة؟

لقد صنعت الأفلام التي أعدت عن أعمال نجيب محفوظ شهرة كبيرة لرواياته لم يكن ممكنا أن تحققها من دون السينما، وأصبح حتى المثقفون يميلون إلى الاقتباس مما ورد من عبارات في الأفلام، أكثر مما يقتبسون من رواياته.

روايات نجيب محفوظ قد تكون أكثر أعمال الأدب المصري تعبيرا عن الواقع المصري، لكنها في الحقيقة أقرب ما تكون إلى ذهنية التصور المصري وربما غير المصري أيضا، عن العالم الدرامي.. أي أن فيها من الدرامية ما يجعلها تجد قبولا من الجمهور القارئ ثم من جمهور السينما.

فالجرعة الدرامية قد تكون أكبر كثيرا من واقعيتها، ففي شخصياتها وأحداثها ومصائر أبطالها ما يجعل الرواية تصل إلى ما يعرف في السينما والمسرح بـ”الميلودراما”.

والميلودراما ركن أساسي من أركان السينما المصرية، كما أنها ترتبط بالطريقة التي يفكر بها الجمهور، والأفلام المصرية “الميلودرامية” الناجحة، هي تلك التي نجحت في خلق شفرة خطابية بينها وبين المتفرج وجعلته يتقبل ما لا يمكن قبوله في الحياة الواقعية، من الصعود الاجتماعي الحاد ولو على جثث الآخرين، ثم السقوط ودفع الثمن غاليا مثلا، أو المأساة العائلية التي تقود إلى السقوط الأخلاقي المدفوع بالفقر، أليس هذا هو على سبيل المثال، جوهر رواية مثل “بداية ونهاية”؟

أظن أننا لو تأملنا بقدر مناسب من “التجريد” الكثير من روايات نجيب محفوظ لوجدنا أن العمود الفقري للصراع فيها، إذا ما جردناه من القضايا الفكرية والفلسفية العميقة، يقوم على “الميلودراما” أو يغري بالوقوع في ثناياها.

في رواية “السمان والخريف” مثلا يجد بطلها المنتمي إلى طبقة كانت في السلطة في ظل النظام الحزبي القديم، ثم تجاوزها الزمن بعد قيام حركة الضباط في 23 يوليو 1952، فاقدا لوظيفته في عمليات “التطهير” التي قام بها النظام الجديد بعد أن انكشف فساده، وأصبح يتعين عليه أن يدفع الثمن.

إنها رواية “وجودية” عن السقوط، بطلها “عيسى الدباغ” خان نفسه وخان مبادئه فسقط وأصبح يعاني في عزلته، يتعذب بفعل شعوره بالذنب، لكنه يكابر، وفي الوقت نفسه يبحث عن النسيان فيغرق في الخمر والجنس.

استندت السينما إلى الجانب الميلودرامي عند تحويل الرواية إلى فيلم، فركزت الاهتمام على علاقة عيسى بالعاهرة “ريري” التي تحمل منه فيطردها ويتنكر لها، ثم يزداد سقوطه فيعود ليتشبث بوجود ابنته من ريري، التي يعتبرها طوق النجاة الوحيد القادر على أن يعيد له توازنه، فيلح ويبكي ويعتذر ويعرض أن تتزوجه المرأة التي كان يحتقرها، وهي نهاية “سينمائية” لا علاقة لها برواية نجيب محفوظ التي تنتهي بأن ترفض ريري عودة عيسى إليها وتنكره لابنته.

الأمر نفسه ينطبق على رواية “القاهرة الجديدة” فأكثر ما يبرز في الفيلم هو الميلودراما التي تتمثل في التدني الذي يصل إليه البورجوازي الصغير “محجوب عبدالدائم” وهو مصاب بحمى الصعود الاجتماعي، فيتغاضى عن كل القيم الأخلاقية، ويقبل الزواج من الفتاة الفقيرة التي رضخت بدورها وارتضت بأن تصبح العشيقة السرية للباشا مقابل الستر المادي.

من دون فلسفة نجيب محفوظ والدلالات الاجتماعية والفلسفية في رواياته، تصبح الحبكة “ميلودرامية”، ومن هنا كانت جاذبية هذه الأعمال للسينما، فالميلودراما، ذلك الفن القائم على المبالغات والمصادفات والأقدار، وسيلة مضمونة لجذب الجمهور والتلاعب بمشاعره.

صحيفة العرب