في محطة «هوبت بانهوف»

علي عبيد الهاملي

الحركة في محطة قطارات مدينة ميونيخ «هوبت بانهوف» لا تهدأ، وعاصمة ولاية بافاريا الحرة أصبحت تشبه كثيراً العاصمة البريطانية لندن، المدينة الأشهر من حيث تعدد الوجوه وتنوع الأجناس والثقافات والديانات، لكثرة المهاجرين إليها من كل أقطار الدنيا، الساعون منهم إلى رزق، والباحثون منهم عن ملاجئ آمنة، والهاربون من جحيم الحروب وصراعات الأنظمة ومعارك الجماعات والإثنيات والمصالح والأيديولوجيات. فميونيخ لم تعد مدينة للألمان فقط، والألمانية لم تعد هي اللغة الوحيدة التي تُسمع في شوارع ميونيخ، بعد أن طغت عليها لغات ولهجات وافدة من جهات العالم الأربع، وبعد أن افترش أرصفة شوارعها عشرات المتسولين، يستجدون المارة بلغات بعضها مألوف لنا نحن العرب، وبعضها الآخر غير مألوف لنا ولا للألمان أنفسهم، الذين انعكس على بعضهم هذا النزوح غير المنضبط سلباً، فغدوا أكثر عصبية وأقل قدرة على تحمل ضيوف مدينتهم.

في محطة قطارات ميونيخ، حيث اللقطة التي تسرق الكاميرا من بين كل المشاهد التي تلتقطها العين، وجوه عليها تعبيرات مختلفة، بعضها تنم عن قلق، وبعضها عن حيرة، وبعضها عن خوف لا نعرف من ماذا، وبعضها عن فرح لا نعرف لماذا، وبعضها لم تتشكل بعد لتأخذ شكلها النهائي. في المحطة أرجل تسابق عقارب الساعة كي تنتقل من رصيف إلى رصيف، وفي المحطة أرجل ثقيلة الخطى، تتسكع بين الأرصفة ومحلات بيع الأطعمة والتذكارات، تستعجل عقارب الساعة حتى يأزف موعد رحيلها إلى محطتها المنشودة، حيث لا نعرف ما ينتظرها.

من بين وجوه المحطة، التي تتغير مع دوران عقارب الساعة، يسترعي انتباهك وجه تظن أنك رأيته من قبل. ذاك واحد من تخيلات رواد محطات السفر الذين تستهويهم الوجوه بتعبيراتها المختلفة. على أحد الكراسي يقعد مسافر كسا البياض رأسه، تُرى كم من المحطات عبر في حياته؟ ذاك سؤال قد تستدعيه اللقطة، لكنه سؤال يبدو تقليدياً في مثل هذه المواقف. السؤال الأهم هو أين يُلقي به القطار المغادر، وكيف ستستقبله المحطة التالية؟ ربما كان يعرف جواب الشطر الأول من السؤال، ويبقى جواب الشطر الثاني مغلفاً بشيء من المجهول الذي تتشكل منه دوائر الأسئلة كلها، وتنتهي إلى حيث لا جواب يقطع سيل الأسئلة، ويضع لها محطة أخيرة تتوقف فيها كل القطارات، حيث تنتهي كل الرحلات.

في مسرحيته الأكثر شهرة «في انتظار غودو» يرسم لنا الكاتب الإيرلندي صمويل بيكيت صورة عبثية للانتظار، حيث يقف الشريدان استراغون «غوغو» وفلاديمير «ديدي» بالقرب من شجرة عارية في أرض مقفرة، ينتظران وصول «غودو» الذي وعد بالمجيء ولم يأت، يزجيان وقت انتظارهما في ثرثرة عبثية هي الأخرى، قبل أن يصل السيد «بوزو» والعبد «لاكي» ليكملا المشهد. يصل رسول من عند «غودو» يحمل رسالة تقول إن «غودو» لن يصل اليوم، ولكنه سيصل غداً، وفي اليوم التالي لا يصل «غودو» أيضاً، لكن رسولاً يصل ليقول إن «غودو» لن يصل اليوم، لكنه سيصل غداً. نهاية المسرحية معروفة لمتابعي مسرح العبث وقراء صمويل بيكيت، حيث يقرر «غوغو» و«ديدي» الانتحار، لكنهما لا ينتحران.

في محطة «هوبت بانهوف» لا أحد ينتظر أحداً. وحدها القطارات تنتظر المسافرين، تلفظ بعضهم على أرصفة المحطة التي ما زالت نظيفة رغم كثرة العابرين، وتلتقط بعضهم الآخر من على أرصفة الانتظار. وحدهم الذين يتأخرون عن الوصول إلى الرصيف المحدد لرحلاتهم في الوقت المناسب يجدون أنفسهم معرضين لعدم اللحاق بما ينتظرهم في المحطة التالية، حيث ربما كانت تنتظرهم فرصة قد لا تتكرر أبداً.

وفق نظرية محطات القطارات هذه تتشكل الكثير من ملامح الحياة، حيث يصبح ركوب القطار الصحيح في الوقت المحدد هو البوابة الذي ينتقل البشر من خلالها إلى عوالم أرحب من الحياة، وتغدو الأرصفة الباردة هي خيار المتأخرين عن اللحاق بالقطارات المنطلقة إلى المحطات التالية في الأوقات المحددة، ولا عزاء للمتسكعين على الأرصفة.

جريدة الاتحاد