اغتراب عندنا وعندكم – بقلم هيثم الزبيدي

هيثم الزبيدي
نايبول الذي رحل غاضبا من نفسه ومن عالمه، هو تجسيد لأزمة الاغتراب التي يعيشها من يترك بلده ومجتمعه ولا يعرف، وهو يتقدم بالعمر، إن كان قد ربح أم خسر.

رحل أديب نوبل في.أس. نايبول وترك معنا الأسئلة التي أرقته دائما. أسئلة يعجز عن تلمس معناها ابن البلد الذي يعيش في بيئته الطبيعية ولا يحس بغربة دائمة تطارده.

نايبول ابن المهاجر الهندي المولود في منطقة الكاريبي الذي هاجر إلى إنكلترا. كيف يكون الاغتراب النفسي أكثر من هذا. كان يحسد سائقه الإنكليزي القحّ على أنه ابن تلال المقاطعة التي يسكن فيها. يعرف السائق بالضبط من هو وماذا تعني له تلك التلال؟

ما ميز نايبول هو تشخيصه لحالة من الاغتراب يعيشها الملايين من العرب والمسلمين في الغرب، البعض ينكرها والأغلبية تدرك أنها موجودة ولكن لا تعرف كيف تتعامل معها. ولكي لا نذهب بعيدا في وصف المهاجرين المهجّرين ممن نزحوا في ظروف استثنائية غير طبيعية وكانت إجبارية، فإن حالة الانفصام النفسي تبدأ مبكرا لدى المهاجرين ممن تركوا بلادهم بهدوء، من طلبة وباحثين عن فرص العمل.

أقِم ستة أشهر في الغرب ثم عد إلى بلدك. فجأة ترى فيه بلدا غريبا وتبدأ بتوجيه الانتقادات يمينا ويسارا، ثم لا تتردد في القول “عندنا” و”عندكم”. يا ويلنا! من أين جاءت كل هذه الأوساخ التي تملأ الشوارع؟ لماذا لم نكن نراها؟ صرت غربيا بعد فترة قصيرة رغم أنك لم تتحدث إلا مع غرباء في المهجر وقلة من أهل البلد وبلغة مكسورة، ورغم أنك لا تزال تتصرف كشرقي في الغرب.

كلما زادت فترة الإقامة في الغرب وتعددت الزيارات، زاد الانفصام. أنت غربي مفترض بالنسبة إلى أهلك في البلد الأم، وأنت مجرّد مهاجر متعثر في بلد الغربة. المراهنة تكون في الحصول على أفضل ما لدى العالمين، ولكن الأكثر ترجيحا هو خسارة ذلك الأفضل وربح الأسوأ. اُنظر إلى أحياء العزلة للأقليات في المدن الغربية الكبرى التي تشبه الغيتوهات.

تريد أن تعقّد حياتك أكثر، عليك السفر إلى بلد ثالث. هناك تتحيّر في الردّ على من يسألك من أين أنت؟ أنا في الأصل من البلد الشرقي الفلاني ولكني أقيم (أو متجنس) في البلد الغربي العلاني. يخجل محدثك من سؤالك من أنت؟ وأنت تسأل نفسك، باللاوعي: من أنا؟

بعد سنوات طويلة لا تزال لغتك المكتسبة تعرج ولا تحسّ بالانتماء. ولكن ذاك البلد الذي ولدت فيه صار أبعد وأبعد. الأحلام متشابكة، بعضها بالعربية وبعضها بلغة الغربة. لن تفيدك متابعة الفضائيات ولا تقليب القنوات. لن يفيدك الحرص على إرسال الأولاد إلى مدرسة عربية.

من التهم التي وجهت لنايبول أنه انتقد الإسلاميين. ذهب إلى الهند، بلاد أجداده، فوجدها نتاجا للصراع بين الأثر الغربي الاستعماري وتأثير الحكام المغول المسلمين القديم أو الصحوة الإسلامية المتجددة. أليس هذا ما نراه الآن في منطقتنا من صراع بين القوى الغربية والقوى الإسلامية، كل يريد أن يختطف عالمنا لتكون حصته من الغنيمة؟

ذهب إلى إندونيسيا وسأل ما هو تاريخكم؟ فكان الرد عن تاريخ من الجزيرة العربية بانتقائية الحكايات التي يبدع بها الإسلاميون. لا أثر للتاريخ الإندونيسي الحديث أو القديم على لسان أهل البلد. هذا الإحلال الفكري والثقافي هو ما نشهده يوميا في عالمنا العربي.

نايبول الذي رحل غاضبا من نفسه ومن عالمه، هو تجسيد لأزمة الاغتراب التي يعيشها من يترك بلده ومجتمعه ولا يعرف، وهو يتقدم بالعمر، إن كان قد ربح أم خسر.

صحيفة العرب