نجيب محفوظ يستحق أكثر – بقلم سوسن الأبطح

سوسن
ثمة فرحة في كل مرة يفتتح فيها متحف لأديب كبير، فكيف حين يكون الأمر متعلقاً بنجيب محفوظ، شيخ الروائيين العرب وكبيرهم. لكن البهجة تبقى على غصة، لأن هذه المتاحف نادراً ما تتمكن من امتاعك بحميمات الأدباء، وحاجياتهم الأقرب إلى اليوميات والارتباط بالعادات، كتلك التي تراها في منزل بلزاك أو فيكتور هوغو في باريس، حتى تظن أنك تعيش معهم. هناك تلملم الدولة الصحن والملعقة، والمنديل الصغير كما ساعة الجيب، وقصاصة الورق التي خربش عليها الكاتب، ولا تستغرب أن ترى الجوارب وربما الأحذية، وأي شيء يمتُّ بصلة لصاحب المقام الأدبي، في ما لا تجد في غالبية متاحف أدبائنا سوى معروضات خالية من روح. حزنت أن ليس في متحف نجيب محفوظ، على ما قرأنا، أشياءه الشخصية التي لا بدَّ أنها لا تزال في عهدة عائلته. والمشكلة ليست في عدم سخاء العائلات وعطائها، بقدر ما هو فقدان للثقة بين المؤسسات الرسمية والورثة، وسوء تنظيم، وقلة تدبير. وهذه علة عربية مستفحلة.
سبق لي وأن رأيت بأم العين حاجيات مبهرة للشاعر اللبناني الياس أبو شبكة في بلدته ذوق مكايل قبيل وفاة زوجته غلواء، لا نعرف اليوم أين أصبحت، بينها الهوية الشخصية والنظارة والكتب والمخطوطات والأقلام وحتى الكنبات. وأغراض ميخائيل نعيمة موزعة في مكانين على الأقل، ليس للدولة اللبنانية مشروع لجمع شتاتها، وربما أن الورثة ليس لهم الثقة لتسليمها أو التبرع بها أو حتى بيعها للدولة. الأديب اللبناني الوحيد الذي نجا، ورتَّب شؤون إرثه قبيل رحيله، هو جبران خليل جبران. وشاءت الظروف أن تصبح له لجنة ومشرفون على متحفه وبيته، وإلا لكان ضاع بين بوسطن وبشري.
سيثبت الزمن، أن محفوظ هو أهم روائي عرفته العربية على الإطلاق حتى اللحظة، ولو كان هو شخصياً لم يوافق على ذلك، ورأى أن المواهب الأدبية الشابة كانت متفجرة من حوله. قدم لنا أبنية روائية مبهرة، تجاوز من خلالها بأشواط من تتلمذ عليهم كالمنفلوطي والمازني وهيكل. ذهب يبحث بحسِّه الفضولي عن الكتابات العالمية، ولم يقلد أو يستغرب رغم إعجابه بعديدين بينهم تولستوي وهيمنغواي. استطاع أن يشق من كل ما قرأه، طريقاً فريداً وأصيلاً، في الأسلوب ورسم الشخصيات، واختيار مواضيعه، ثم في ذاك الدفق الكثيف من الحكايات والقصص والتفاصيل، والقدرة على تطوير الذات حتى وهو يشارف على تسعيناته. تلك موهبة نادرة، وقدرة على الاستنباط لا تتكرر بسهولة.
يستحق محفوظ بعد 13 سنة على رحيلة متحفاً تتشارك فيه الدولة مع العائلة والأصدقاء الذين لا بدَّ في حوزتهم مقتنيات مهمة له، يتحول إلى مزار يقصده عشاقه العرب من كل بقعه، لا بل وقراء أدبه المترجم إلى لغات العالم. جائزة نوبل ليست هي التي صنعت أهمية محفوظ، بل كان الاختيار هذه المرة مستحقاً بالفعل. أديب سبّاق حاذق، عرف بذهنية صافية وتفكير شديد النقاء، كيف ينظم أيامه بما لا يهدر طاقته الخلَّاقة الاستثنائية، ويستمر في الوظيفة بما يغنيه عن السؤال وقبول ما يعكر صفاء البال. ابتعد عن الكتابة الصحافية المنتظمة خشية التلوث اللغوي، بعد أن رأى نموذج المازني الذي قال إنه لولا انخراطه في الصحافة لكان أهم روائي في عصره. كتابة السيناريو التي اعتاش منها إلى جانب الوظيفة لا بدَّ أنها صبَّت في صالح حوارات رواياته وغذتها. مشحون محفوظ بحب الأدب وخلق العوالم الضاجة بالأحداث والأبطال. ففي الثلاثية وحدها ما يقارب الخمسين شخصية حركها بمهارة اللاعب الفذ، ونمت في مخيلته نابضة حتى صار بعض أبطاله، كأنهم موجودون معنا، كما السيد أحمد عبد الجواد في «بين القصرين» وأحمد عاكف في «خان الخليلي» وعيسى الدباغ في «السمان والخريف». بعضهم حقيقيون، يعرفهم الكاتب عن كثب، كما هي الحارات التي عاش فيها والتكايا التي يعرفها، والمقاهي بعد أن جعلها بيته الثاني.
كالنملة المثابرة كان نجيب محفوظ، وهو بسرعة بديهته ونباهته، وبعده عن افتعال المشكلات، كان يرى أن يوفر على نفسه تضييع الوقت في المهاترات ليستثمره في كتابة الأدب. وحسناً فعل. لكن كل ذلك لم يجنبه الشرّ، والاعتداء عليه بالطعن، وفقدانه القدرة على الكتابة، وحرماننا من نصوص بقيت قيد التفكير ولم تجد طريقها إلى الورق. فكتاب «أصداء السيرة الذاتية» و«أحلام فترة النقاهة» يشيان أن الرجل بقي إلى النهاية، متوقد الذهن عامر الخيال.
مدينون لنجيب محفوظ بالمتعة التي قطفناها ونحن نقرأ رواياته، ومدينون له بالثمن الباهظ الذي دفعه مقابل كتابات لم تكن مستفزة، ولا تستثير ضغينة. وكان الرجل قد سما وارتفع، ولا يريد من الدنيا سوى أن يكتب تلك الحكايات التي تدور في رأسه، بأبهى الأساليب وأكثرها سلالة، دون أدنى تكلف أو صنعة. ومع ذلك لم يترك محفوظ لأحلامه وأمانيه الصغيرة.
ظُلم نجيب محفوظ وأن لم يشكُ. ظلمه النقاد الذين لم يتابعوا كتاباته الوفيرة وركزوا على بعضها حتى بقي غالبيتها شبه مجهول لعموم الناس. ظلم حين بقيت «أولاد حارتنا» ممنوعة في مصر لسنوات طويلة من دون وجه حق، وحين طعن ممن لا يعرفون عن أدبه إلا ما سمعوا. وسيظلم لمرة جديدة إن لم يكن من جهد حقيقي لإقامة متحف شامل وكبير للرجل يعرّف بتفاصيل حياته، هو الذي رفض كتابة سيرته الذاتية، لأنه اعتبر أنها من البساطة بحيث ان ليس فيها ما يستحق أن يروى. يا لنجيب محفوظ الذي لا يزال يعلمنا التواضع!
جريدة الشرق الاوسط