You are currently viewing النقد العراقي بين زمنين… حكاية التحضر والبداوة

النقد العراقي بين زمنين… حكاية التحضر والبداوة

هل هو غائب عن الساحة الأدبية؟
 

النقد هو لحظة متطورة عن الخلق الإبداعي الأول، هو لحظة العقل المتأني، وهو لحظة المراجعة والنظر، والفحص والقراءة، ومن ثم التأويل، أو الحكم، إنْ احتجنا إليه؛ لذلك، شكّل النقد والنقد الأدبي على وجه الدقة لحظة مهمة في خريطة النصوص الإبداعية، كما شكل جواز مرور لعددٍ كبيرٍ منها، فلولا التفاتات النقد العظيمة، لما استمرت رئات النصوص بالتنفس الدائم، وكأن النقد هو الماء الذي تعيش فيه سمكة الشعر أو الأدب.

إن الحديث عن النقد الأدبي هو حديث طويل، لكنني لست بصدد سردٍ تأريخي لحركة النقد، ونموه، وتطوره، أو تتبع حركته من الأجنة إلى الشباب، فالكهولة، بمعنى متابعة تحولاته الفطرية، إلى المعرفية، حيث المناهج، والرؤى التي كانت بوصلة الناقد الحديث. فهذا الأمر قد تكفلت به عشرات الدراسات والبحوث الأكاديمية، ويكفي كتاب سعيد الغانمي «مائة عام من الفكر النقدي في العراق» أنْ يكون إطلالة مهمة على خريطة النقد في العراق.

لكنني أحاول أن أتتبع حركة النقد الأدبي في العراق، بين زمنين متقاربين، أي ما قبل 2003 وما بعدها، والسبب هو كثرة الكلام الذي أسمعه من الشعراء والساردين، وهم يكثرون شكواهم من غياب النقد هذه الأيام، فهل فعلاً النقد الأدبي غائب عن الساحة الأدبية؟

نعرف جميعاً أن النصف الثاني من القرن العشرين، كان ميداناً خصباً للنقدية العربية، والعراقية على وجه التحديد، على الرغم من الصبغة الشعرية التي صُبغ العراق بها، إلا أن للنقد ميدانه الرحب الذي يدور فيه، فقد أسهمت البعثات الأكاديمية التي كانت ترسلها الدولة – آنذاك – في أنْ تخرج لنا جيلاً نقدياً مهماً في العراق، شكّل حلقة أساسية في تحول النقد من تتبع الأخطاء اللغوية وتصحيحها، إلى أن يتتبع الناقد الرؤى الآيديولوجية، والفكرية، والنفسية، لدى الشاعر، ومن ثم تحولوا إلى قراءة النص الأدبي نفسه قراءة فنية جمالية، وهذا الجيل يشكّل – كما قلت – عتبة التأسيس الفعلي لحركة نقدية مهمة، أسهمت بإنعاشها مجموعة من الظروف الموضوعية، منها البعثات إلى خارج العراق، ومنها حركة التجديد الشعري، التي فتحت عيون النقاد، لأن يواكبوا حركتها، ويجددوا من أدواتهم النقدية في مقاربة النصوص، ومنها كذلك حركة الترجمة المهمة التي ظهرت في تلك المرحلة، كل تلك العوامل وغيرها، أسهمت في أن يكون للنقد المكانة المهمة، وأن يكون للناقد الحقيقي السهم الأطول والأسرع في النظر إلى الأدب، وقائله، حتى إن عدداً كبيراً من النقاد يذكرنا بالملحنين الذين كانوا سبباً في صعود فنان ما على حساب آخر، هكذا كان يفعل النقاد ببعد نظرهم في الكتابة عن الشاعر الفلاني، أو الروائي الفلاني، وبالنتيجة ستشكل هذه الكتابة لافتة عريضة لسحب الجمهور إزاء ذاك الشاعر، أو ذلك الروائي.

فبرز في تلك الحركة نقاد مثل: علي جواد الطاهر، نازك الملائكة، عناد غزوان، جلال الخياط، عبد الإله أحمد، علي عباس علوان، محسن إطيمش، عبد الجبار عباس، عبد الجبار داود البصري وآخرين، ومن ثم ظهر جيل آخر من النقاد كانوا أكثر تطوراً من الجيل الذي سبقهم مثل: فاضل ثامر، ياسين النصير، حاتم الصكر، شجاع العاني، علي جعفر العلاق، طراد الكبيسي، محمد الجزائري، وآخرين، واستمر جيل النقاد بالتوالد حتى ظهر: عبد الله إبراهيم، بشرى موسى، محمد صابر عبيد، حسن ناظم، سعيد الغانمي، رغم انشغال الجيل الثالث بالتنظير وبالمصطلح، وبالمناهج الحديثة، أكثر من انشغاله بالنص، إلا إذا استثنينا البعض منهم، وهذه واحدة من الإشكاليات الكبرى، في أن يلتفت النقاد للنقد نفسه، وأنْ ينظروا في المرآة لوجوههم، أكثر من رؤيتهم للنص الشعري، أو الأدبي، بشكل عام، فظهرت دراسات «ميتا نقد» أو «نقد النقد» تهتم بالنظر للمناهج، والمصطلحات، والمفاهيم، وأصبح الاشتغال «النقدي النقدي» هو المهيمن لدى جيل كبير من النقاد؛ مما شكّل غياباً شبه كامل عن المشغل الإبداعي، وبدأ الأدباء يكتبون من دون أن ينظر لمنجزهم ناقد واحد، لأن النقاد منشغلون بالنقد نفسه.

وهنا بودي أنْ أذكر رأياً مهماً للناقد صلاح فضل في كتابه «مناهج النقد المعاصر»، يذكر فيه أن القرن الرابع الهجري والقرن العشرين الميلادي هما العصران الذهبيان للنقد الأدبي، بالنسبة للعرب، وحين نراجع هذا الرأي نجد أن هذين القرنين، هما الوحيدان اللذان انفتح فيهما العرب على الآخر؛ فالترجمة، والسفر، والحياة المختلفة، كانت أسباباً للنقد في أن يعيش في هذين القرنين أكثر من بقية الأزمنة والقرون.

كما أظن أن هناك عاملاً أكثر أهمية في انتعاش النقد، هو تفشي الحياة الحضرية، والمدنية؛ ذلك أن النقد ابن بار للفكر والمعرفة، وكلا الحقلين ينتعش في المدينة، وبما أن النقد ولدهما البار؛ فلهذا تتفتح ورود النقد في الحارات والأزقة والمقاهي والصحف والمجلات والقاعات والمدارس والكليات، وكل هذه المظاهر هي مظاهر المدينة، يُضاف لها العامل الأكثر أهمية، وهو الحياة المدنية، والسلوك المديني للناس؛ فالناس لم يكتفوا بمظاهر المدينة، إنما تشبعت نفوسهم بها، فأنتجوا سلوكاً مدينياً؛ لذلك كان النقد ركناً أساسيا من أركان العملية الإبداعية، وكان الشاعر، أو القاص، حين يطبع عملاً يبقى منتظراً، وغير معترفٍ به حتى يكتب عنه النقاد.

أقول هذا الكلام ونحن نعيش ما بعد الألفين، بتواصل إلكتروني أكثر، وأسرع، وبحياة عصرية أكثر بعشرات المرات في الظاهر من السابق، وبملابس، وبيوت، وسيارات حديثة، لكن النقد كما نراه غير مواكب للنصوص الإبداعية، فقد انزوى بعيداً، وبقي شبه محصور بالدرس الأكاديمي، ولولا المناهج المفروضة على الأكاديميين لنُسي النقد تماماً، وأظن أن السبب هو في فقدان الناس حياتهم المدنية، وسلوكهم المتحضر – في الأعم الأغلب – فقد تراجعت قطاعات واسعة من العراقيين إلى المربعات الأولى لطفولة الدولة، فصعدت القبلية بديلاً عن المؤسسات، واتخذ رجال الدين أماكن خسروها في الدولة القومية، لهذا فإن نسق الحياة نسقٌ بدوي عشائري، لا يقيم أدنى اهتمام للرأي النقدي، الذي يعني الحوار والتداول، وهنا نجد الأصوات العالية هي للعربات الفارغة، التي تسير في طرقات المدينة، في حين العربات الممتلئة لا يسمع لها صوت، بل إنها – للأسف – لا تسير في الأساس.

يظهر كل مدة عدد كبير من الشعراء والساردين وكتاب المسرح والدراما أو بقية الفنون الإبداعية، لكنهم ولدوا دون أن توضع ملعقة نقدية في أفواههم؛ مما يصنع إرباكاً في المشهد الإبداعي، الذي يسير بعكاز واحد دون أن يكون للنقد رأي واضح إزاء ما يكتب، أما الكتابات الجامعية التي لا يُعتد كثيراً بأهميتها، وجرأتها، فضلاً عن عددٍ ضئيلٍ جداً جداً من النقاد الذين يكتبون عن المشهد الثقافي، والأدبي، بشكل خاص، وهم قد أصبحوا أقلية نادرة.

إذن، نحن نحتاج إلى سياقات أخرى، لكي يأخذ النقد دوره، أولى هذه السياقات هو فضاء الحرية الذي يسمح للنقد في أنْ يُبدي رأيه أنَى شاء، ومتى شاء، وكيفما كان، وثاني هذه السياقات هو أنْ تنسحب القبلية والتوجهات الدينية إلى مناطقها التي كانت عليها، ويُترك لهذه المدينة قانونها الذي يشمل الجميع في التعامل، وكذلك أنْ يتحول الدرس الجامعي من درس تعليمي يخرّج معلمين موظفين، إلى درس عبارة عن ورش عمل، يخرج أناساً معرفيين، وهذه ليست صعبة على الجامعات، في أنْ تحول دروس الأدب والنقد إلى ورش إبداعية، من خلالها تستضيف بشكل عملي وتطبيقي الأدباء والكتاب، وتفتح باب الحوار معهم، ويكون هذا الحوار هو الدرس الذي يتلقاه الطلاب ويختبرون به، وهذا السياق معمول به في كبريات الجامعات الغربية، التي نستعين بمصادر كتابها ونقادها، لكننا نرفض أنْ تكون مناهجنا مشابهة لتلك المناهج، التي تخرّج باحثين بدلاً من «الريبوتات» التي نخرّجها كل سنة. وهنا أذكر بورخس العظيم وكتابه المهم «صنعة الشعر»، وهو عبارة عن محاضرات ألقاها في إحدى الجامعات البريطانية حيث كان أستاذاً زائراً وبوصفه مبدعاً كبيراً، فقد ألقى تلك المحاضرات دون هوامش وقيود علمية كما نفعل نحن، حيث نسير عليها في الأكاديمية، فتصنع منا أناساً محنطين؛ لذلك بقي كتاب بورخس صنعة الشعر أحد أهم وأجمل الكتب التي نعود إليها، في حين تذهب آلاف البحوث العلمية تحت أتربة المكتبات الجامعية دون أن ينظر لها أحد لأنها خالية من الروح.

الحديث عن النقد في العراق هو حديثٌ طويلٌ جداً ومتشعبٌ ومرتبطٌ بالفلسفة والفكر.

الشرق الاوسط