حوار مع بورخيس: كتبتُ القصة بسبب ضربة على الرأس

(هذه ترجمة لجزء من حوار أجرته مجلة «باريس ريفيو» بالإنجليزية مع الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس في بوينس آيرس عام 1966 وأعيد نشره في كتاب صدر عام 2006)
> المحاور: أود، إن أمكن، أن أغير الموضوع إلى قصصك. أود أن أسأل عما سبق أن قلتَه من أنك كنت شديد الخوف حيال البدء بكتابة القصص.
– بورخيس: نعم، كنت شديد الخوف، لأني حين كنت صغيراً ظننت نفسي شاعراً. لذا قلت، إن كتبت قصة سيدرك الجميع أنني دخيل عليها، أنني أطأ أرضاً محرمة. عندئذٍ حصل لي حادث. يمكنك أن تلمس أثر الجرح. لو لمست رأسي هنا، سترى. هل تحس بتلك الجبال، والمطبات؟ أمضيت بعدئذٍ أسبوعين في المستشفى. رأيت كوابيس وأرقاً.
بعد ذلك أخبروني أنني كنت على حافة الموت، أنه كان رائعاً أن العملية تكللت بالنجاح. بدأت أخاف على سلامة عقلي – قلت قد لا أتمكن من الكتابة مرة أخرى. ولو حدث ذلك لانتهت حياتي، لأن الأدب مهم جداً بالنسبة لي. ليس لأنني أعتقد أن ما أكتبه ممتاز، وإنما لأنني كنت أدرك أنني لن أتمكن من الاستمرار بلا كتابة. إن لم أكتب سأشعر، كما تقول، بنوع من الذنب، أليس كذلك؟ قلت عندئذٍ سأجرب كتابة مقالة أو قصيدة. لكني قلت إنني كتبت مئات المقالات والقصائد. إن لم أتمكن من ذلك سأتأكد حالاً أنني انتهيت، أن كل شيء انتهى؛ لذا قلت سأجرب شيئاً لم أجربه من قبل؛ إن لم أنجح فيه لن يكون هناك ما يستدعي الاستغراب، وإلا لماذا أكتب قصصاً قصيرة؟ سيهئُني ذلك للضربة القاضية: معرفتي بأنني وصلت إلى نهاية الطريق. كتبت قصة أظن أنني عنونتها (الرجل الذي في الركن الوردي) استمتع الجميع بها. كان ذلك مصدر سعادة كبرى لي. فلربما لو لم تحدث تلك الضربة على الرأس لما كتبت قصصاً قصيرة.
> المحاور: ولربما ما كنت لتُترجم؟
– بورخيس: ولم يكن أحد ليخطر بباله أن يترجمني. لذا كان ذلك خير مختبئ. لقد وجدت تلك القصص طريقها على نحو ما: ترجمت إلى الفرنسية، فزت بجائزة (فورمينتور)، وبعدها ترجمت كما يبدو إلى لغات أخرى عديدة. كان مترجمي الأول (إيبارا). كان صديقاً لي، وقد ترجم القصص إلى الفرنسية. أظنه أدخل تحسينات كبيرة عليها، أليس كذلك؟
> المحاور: كان المترجم إيبارا وليس كيلواز؟
– بورخيس: إيبارا وروجيه كايوا. في مرحلة متقدمة من العمر بدأت أكتشف أن كثيراً من الناس كانوا مهتمين بعملي في مختلف أنحاء العالم. بدا ذلك غريباً. لقد ترجمت العديد من أعمالي إلى الإنجليزية والسويدية والفرنسية وإلى الإيطالية والألمانية والبرتغالية وإلى بعض اللغات السلافية وكذلك الدنماركية. وفي كل مرة أرى ذلك مدهشاً، لأنني أتذكر أنني نشرت كتاباً – كان ذلك فيما أظن عام 1932 – وفي نهاية العام اكتشفت أن ما بيع من الكتاب لم يكن أقل من 37 نسخة!
> المحاور: هل كان ذلك «التاريخ الكوني لسوء السمعة»؟
– بورخيس: لا، لا. كان «تاريخ الأبدية». في البداية أردت أن أعثر على كل فرد من الذين اشتروا لأعتذر عن الكتاب، وأيضاً لأشكرهم لما فعلوه. هناك تفسير لذلك. إذا تخيلت سبعة وثلاثين شخصاً – فإن أولئك حقيقيون، أقصد أن لكل واحد منهم وجهاً يخصه، وله أسرة، ويعيش في شارعه المحدد. ذلك أنك لو بعت ألفي نسخة سيكون كما لو أنك لم تبع شيئاً مطلقاً، لأن الألفين عدد ضخم – أقصد أضخم من أن تستوعبه المخيلة. بينما سبعة وثلاثون شخصاً – وقد يكون سبعة وثلاثون كثيرين جداً، ربما سبعة عشر أفضل، أو حتى سبعة – ومع ذلك فسبعة وثلاثون لا تزال ضمن حدود المخيلة.
> المحاور: بمناسبة الأرقام، ألاحظ أن أرقاماً محددة تتكرر في قصصك.
– بورخيس: آه، صحيح. إنني أؤمن بالخرافة بشكل مرعب. إنني خجل من ذلك. أقول لنفسي إن الخرافات في نهاية المطاف نوع من الجنون، أليس كذلك؟
> المحاور: أو من الدين؟
– بورخيس: حسناً، الدين، لكن… أظن أنه لو أن شخصاً وصل إلى سن المائة وخمسين سيصاب بالجنون، أليس كذلك؟ لأن كل تلك السمات الصغيرة ستنمو. ومع ذلك فإني أرى أمي، التي تبلغ التسعين، وتؤمن بخرافات أقل مني. الآن وأنا أقرأ، للمرة العاشرة، كما أظن، كتاب «جونسون» لبوزويل أجد أنه كان يؤمن بالكثير من الخرافات، وفي الوقت نفسه، لديه خوف عظيم من الجنون. أحد الأشياء التي طلب من الله، في الصلوات التي كتب، هي ألا يصاب بالجنون، فلا بد أنه كان قلقاً حول ذلك.
> المحاور: هل ترى احتمال أن يكون السبب نفسه – الخرافة – هي التي تجعلك تستخدم نفس الألوان – الأحمر، الأصفر، الأخضر – المرة تلو الأخرى؟
– بورخيس: لكن هل أستعمل الأخضر؟
> المحاور: ليس بقدر استعمالك للألوان الأخرى. ولكني في الواقع فعلت شيئاً أقرب إلى التفاهة، لقد قمت بعد الألوان في…
– بورخيس: لا، لا. هذا يسمى «علم الأسلوب»؛ إنه يدرس هنا. لا فإني أعتقد أنك ستجد الأصفر.
> المحاور: والأحمر كذلك، مائلاً في الغالب إلى أو متلاشياً في الوردي.
– بورخيس: صحيح؟ لم أعلم ذلك.
> المحاور: إن كما لو أن العالم اليوم جمرة من نار الأمس – تلك استعارة تستخدمها. تتحدث عن «آدم الأحمر» مثلاً.
– بورخيس: حسناً، تعني كلمة «آدم» في العبرية، فيما أظن، «الطين الأحمر». بالإضافة إلى إيقاعها الجميل، أليس كذلك؟ «روخو آدان» (آدم الأحمر).
> المحاور: نعم إنها كذلك. ولكن ذلك ليس شيئاً تقصد إلى إظهاره: تآكل العالم بالاستعمال المجازي للون.
– بورخيس: لا أقصد إلى أن أظهر شيئاً. (يضحك). ليست لدي مقاصد.
> المحاور: فقط تصف؟
– بورخيس: أصف. أكتب. وبالنسبة للون الأصفر، ثمة تفسير مادي لذلك. حين بدأت أفقد بصري، كان آخر لون أبصرته، أو آخر لون تميز عن غيره، لأنني الآن أدرك أن لون معطفك ليس بلون هذه الطاولة نفسه، أو لون الخشب الذي خلفك – كان آخر لون يتميز هو الأصفر لأنه أكثر الألوان بريقاً. إنه السبب الذي يجعل هناك «شركة لسيارات الأجرة الصفراء» في الولايات المتحدة. فكروا في البدء بجعل السيارات وردية.
عندئذٍ اكتشف أحدهم أنه في الليل أو حين يكون هناك ضباب يتميز اللون الأصفر ببريق أشد من الوردي. لذا هناك سيارات أجرة صفراء يمكن لأي شخص أن يختار أحدها. حين بدأت أفقد بصري، حين بدأ العالم يتوارى عني، جاء وقت بين أصدقائي… أخذوا يسخرون مني لأني ألبس ربطات عنق صفراء. ظنوا أنني أحب اللون الأصفر، مع أنه كان في الحقيقة شديد السطوع. قلت نعم، إنه كذلك لكم ولكن ليس لي، السبب هو أنه اللون الوحيد الذي أستطيع رؤيته عملياً! إنني أعيش في عالم رمادي، عالم يشبه عالم الشاشة الفضية. لكن الأصفر يتميز. قد يكون ذلك هو السبب. أتذكر نكتة لأوسكار وايلد: كان لأحد أصدقائه ربطة عنق بلون أصفر وأحمر، إلخ، فقال وايلد: أوه، يا عزيزي، فقط هو الرجل الأصم الذي يستطيع أن يلبس ربطة عنق كتلك!
> المحاور: كان يمكن أن يشير إلى الربطة التي تلبسها الآن.
– بورخيس: آه، حسناً. أتذكر أنني قلت تلك الحكاية لسيدة لم تلتقط النكتة. قالت: بالطبع، لا بد أن السبب هو أن كونه أصم جعل من الصعب عليه أن يسمع ما يقوله الناس عن ربطته. كان ذلك سيعجب أوسكار وايلد، أليس كذلك؟
المحاور: تمنيت لو سمعت تعليقه.

جريدة الشرق الأوسط