حمد الرشيدي: الأدب غير صالح للتعامل مع كارثة «كورونا»

صاحب «ليلى اليهودية» يقول إن روايته خليط من الحقيقة والخيال

أصدر الروائي الشاعر السعودي حمد حميد الرشيدي 4 روايات، ونحو 10 دراسات في القصة والنقد والتاريخ، وكان آخر أعماله الروائية «الصعاليك» التي صدرت هذا العام، سبقتها روايته ذائعة الصيت «مجنون ليلى اليهودية» 2016، ورواية «أقدام تنتعل السراب» 2007، ورواية «شوال الرياض» 1999.

كما أصدر مجموعتين شعريتين: «للجراح ريش وللرياح وكر» و«أبجديات الروح والجسد»، وقصصاً ممسرحة بعنوان «حكايات الرسول السعودي»، وقدم برامج في الإذاعة تهتم بالأدب العربي.

وهنا حوار معه، أجريناه عبر وسائل التواصل نظراً للتباعد الذي فرضته أجواء الفيروس:

> دعني أولاً أسألك: كيف ترى الأثر الثقافي الذي يمكن أن تخّلفه جائحة «كورونا» المستجد؟

– الحقيقة أن الكوارث الطبيعية والأزمات البشرية، وشيوعها أو تفشيها بين الناس، ليست بجديدة على التاريخ البشري، منذ أن خلق الإنسان على الأرض حتى الوقت الراهن. ومرض «كورونا» هو إحدى هذه الكوارث الطبيعية العالمية التي نواجهها اليَوْم. ومهما يكن من أمر هذا المرض، فإن «العزلة» التي تسبب بها بين الناس نتيجة فرض «حظر التجول» هذه الأيام، وضرورة البقاء في المنزل لمنع تفشيه، هي عزلة «اجتماعية صحية نفسية» مؤقتة، وسوف تزول قريباً، وليست عزلة ثقافية أو معرفية. طبعاً، لا ننسى أن التكنولوجيا الحديثة ووسائلها، كالإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، ساهمت أيضاً إلى حد كبير بالتقليل من آثار هذه العزلة، على عكس ما كان في السابق، حين تتسبب مثل هذه الكوارث في القطيعة التامة بين الناس.

> كيف يمكن للثقافة أن «تخفف» من الاضطراب الذي يخلفه الرعب من «كورونا»؟ وهل يمكنها أن توفر بعض الطمأنينة؟

– إذا كان المقصود بكلمة «ثقافة» في السؤال هنا «الأدب بصفته فعلاً ثقافياً»، فإن الأمر يحتاج منا لوقفة، وذلك لأن «الأدب»، وإن كان فاعلاً مؤثراً بلا شك في كل الأحوال، غير صالح للتعامل المباشر مع مثل هذه الكوارث التي تتطلب تعاملاً مباشراً معها، كما هو حاصل مع «كورونا» الآن، لكون الأدب يقوم على التخييل والتصوير والتأمل والتفكر المتأني، وعلى التفسير «غير المباشر» للظواهر المحيطة، ولذلك يأتي فهمه والاستفادة منه عادة بطيئة ومؤجلة، لافتقاره لعنصر المباشرة في أثناء الأحداث الطارئة. وغالباً ما تظهر قيمة هذا النوع من الأدب، وهو ما يعرف بـ«أدب الأزمات» بعد انتهاء الكارثة أو الأزمة بوقت أو زمن ليس بالقصير، وليس في أثناء حدوثها. ومثل ذلك نجده في أعمال أدبية تنتمي لأدب الأزمات نالت شهرة عالمية واسعة، مثل «الطاعون» للكاتب الفرنسي ألبير كامو، و«الحب في زمن الكوليرا» للكاتب الكولومبي ماركيز، وغيرهما. فمثل هذه الأعمال لم تعرف قيمتها وأهميتها في وقتها، ولكن بعد أن انتهت الكوارث الداعية لتأليفها. إذن، يمكنني القول: إن أدب الأزمات والكوارث كالتحفة أو القطعة الأثرية التي تزداد قيمتها مع مرور الزمن، رغم أنها قد لا تحظى بهذه الأهمية لدى الناس من معاصريها في وقتها الذي وُجِدتْ فيه.

> هل يمكن أن ينتعش أدب الوباء أو أدب الخوف في هذه المرحلة أو بعدها؟

– ما يجعل «أدب الخوف والأزمات والأوبئة» قابلاً للانتعاش أكثر لدى عامة الناس أنه يوفر لهم التعاطف الإنساني مع الكاتب صاحب المعاناة، بشكل يفوق تعاطفهم أو تأثرهم بكاتب يتحدث لهم عما يسعده أو يبهجه ويضحكه.

ليلى اليهودية

> مرت 4 سنوات تقريباً على صدور روايتك «مجنون ليلى اليهودية». بعدها صدرت في السعودية عدة روايات تتناول الحالة اليهودية… ما الذي يجعل روايتك مختلفة؟

– هذه الرواية عندما صدرت كانت -ولا تزال- لها ردود فعل متباينة من قبل عامة القرّاء، منها ما هو مؤيد لما طرحته فيها، ومنها ما هو معارض أو ساخط نتيجة تفسير بعض هؤلاء للعمل تفسيرات شتى، أبرزها اتهامه بأنه محاولة لتطبيع العلاقات مع الوجود اليهودي في المنطقة العربية. وربما كانت هناك تفسيرات أخرى، أدلى بها بعضهم بدلوه، لها طابع شخصي ومبنية على رؤى أحادية وأحكام جاهزة مسبقاً. وقد نسي جميع هؤلاء أو فات عليهم أني أتعامل مع الموضوع اليهودي تعاملاً أدبياً فنياً، بصفة الكاتب أو الروائي الذي يدخل الخيال والتصوير والرمز ويوظفه بنسبة كبيرة في عملي هذا، وهو خليط من الحقيقة والخيال. والأدب -كما هو معروف- فن له تقنياته وأدواته الخاصة به، التي تمكنه من تجاوز الواقع. وعليه، فأنا هنا أكتب «رواية أدبية»، ولست مؤرخاً أو باحثاً يقدم بحثاً علمياً على أسس علمية منهجية، أو يتناول اليهودية وتاريخها تناولاً موضوعياً مجرداً لا يمكنه الحياد عنه. وعلى أي حال، تقوم جميع هذه الآراء المتباينة على مبدأ التكهن والتوجس والاحتمالات التي لا تستند إلى دليل واضح، وأنا احترمها حتى إن كانت غير صحيحة، لأن من حسناتها أنها أثارت الجدل حول الرواية لدى نشرها. وهذا الجدل أو الخلاف هو ما جعل «الرواية مختلفة» فعلاً، وكأنها قد ألقت حجراً حرك المياه الراكدة!

> لماذا اخترت الدخول للموضوع اليهودي من خلال «ليلى شالوم اليهودية»؟

– لأن الشخصية اليهودية، وخاصة عندما تكون (امرأة)، تتمتع برموز تاريخية وأسطورية، ومماحكات ومأثورات خرافية، ومغالطات كثيرة سجلها التاريخ منذ القدم عن اليهود، بصفتهم قوماً أهل «شقاق ونزاع وتعنت وجدل وخلاف دائم مع غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى» كما في المخيال العام، وهذا ما وفر لي مساحة كبيرة لأن أوظف أو أتناول «الشخصية اليهودية» وتاريخها من زوايا عدة، على عكس فيما لو قمت باختيار شخصيات عادية من ديانات أخرى، فقيرة بالجانب التاريخي والأسطوري ورموزه، بحيث لا ينجذب إليها القارئ، ولا تثير اهتمامه في شيء.

> كثير من الأعمال الروائية تلج للمجتمع اليهودي من خلال فتاة يهودية فائقة الجمال؛ نموذجك هو «ليلى» التي سحرت ألباب الشباب في مصر… لماذا تختزل المرأة أسباب الغواية، حتى في إسقاطها القومي والسياسي؟

– الجمال -بمعناه المطلق- مثير لغواية الإنسان بطبيعته، خاصة عندما تكون «المرأة الجميلة» طرفاً في هذه الغواية، بحيث يتهيأ لها من سبل الغواية ما لا يتهيأ لغيرها من بنات جنسها الأقل منها جمالاً. يقول الكاتب العربي الكبير توفيق الحكيم في نظرته لجمال المرأة: «الجمال مهما يكن نوعه من خارجي وداخلي هو العذر الوحيد الذي به تُغْتَفَرُ للمرأة تفاهتها وحماقتها». كما يقول الكاتب الناقد الفرنسي أناتول فرانس أيضاً في نظرته الواسعة للجمال: «إن ميدان الجمال واسع، تكثر فيه المتناقضات». ولهذا السبب كانت «ليلى» في روايتي هذه شخصية مثيرة للجدل والغموض والريبة، نظراً لما تتمتع به من جمال فائق.

> هل كانت الرواية حقاً -مثلما قال عنها بعض النقاد- بمثابة «محاولة لإعادة قراءة التاريخ العربي»؟ وهل تصلح الرواية الأدبية لخوض هذه التجربة؟

– نعم! ما قاله أمثال هؤلاء عن الرواية أراه ينطبق عليها بنسبة كبيرة. إن بعضاً من الحقائق والوقائع والأحداث التاريخية لا يمكن فهمها أو تفسيرها في وقتها الذي حدثت فيه، بل بعد أن يمر عليها وقت أو زمن قد يطول أو يقصر. ولذلك يقول الزعيم النازي الألماني أدولف هتلر «إن بعض الناس يقرأون التاريخ ولا يفهمون منه شيئاً». كما أقول أيضاً إن الرواية -بصفتها جنساً أدبياً- تعد من حيث الشكل والمضمون صالحة لخوض التجربة التاريخية لأنها من أقدر وسائل التعبير الأدبي وأكثرها استيعاباً لقيم ومفاهيم إنسانية كثيرة، بشكل لا توفره للكاتب غيرها من فنون التعبير الأخرى.

> روايتك الأخيرة «الصعاليك» قدمت تجربة توظيف تقنيات متعددة -كالشعر والمسرح- فهل كانت حقاً كما وصفت من أنها «رواية متأخرة لمسرحية مبكرة»؟

– أجل! «الصعاليك» أعدها خليطاً من الفنون الأدبية في قالب واحد.

> لديك كثير من الكتب والإصدارات التي رصدت الإنتاج العربي والسعودي تحديداً… كيف ترى تطور التجربة الروائية في السعودية؟

– عموماً، الرواية العربية في العقد الأخير من الزمن تحديداً لاقت رواجاً كبيراً لدى القارئ العربي، بشكل لم يسبق له نظير من قبل. لكن لأكون صريحاً معك إلى حد كبير -وبصفتي متابعاً لكثير مما ينشر من روايات في الوطن العربي- حين أقول إن هذا التدفق المهول الذي نشهده الآن لصدور كم هائل من الروايات، خلال زمن قصير نسبياً، كان للأسف الشديد على حساب «الكيف» بشكل سافر فج! وهذا كانت له ردود فعل ونتائج سلبية على المشهد الروائي برمته، بسبب أن معظم ما ينشر من هذه الروايات لا يرتقي إطلاقاً للمستوى المطلوب. وهذا الكلام ينطبق على الواقع الحالي للرواية العربية كلها، بما فيها الرواية السعودية.

> ما أكثر الفترات ثراء في عمر التجربة الروائية في المملكة؟

– منذ عقد مضى من الزمن تقريباً حتى الآن؛ أعتقد أنها أكثر الفترات ثراء في عمر التجربة الروائية لدينا، ليس بالنسبة للرواية السعودية فحسب، بل يشمل أيضاً المشهد الروائي العربي كله. ولكن كما ذكرت آنفاً، فإن هذا الثراء -للأسف- «كمي»، وليس كيفياً.

جريدة الشرق الأوسط