عبد الوهاب البياتي بين صخب الحضور ووطأة النسيان – بقلم شوقي بزيع

أمسية شعرية للاشعر شوقي بزيع
لم يكن عبد الوهاب البياتي واحداً من الشعراء الذين ارتضوا الإقامة في الظل، أو التعويل على الصمت، أو ترْك نصوصه وأعماله لتواجه بلا ظهير مصيرها المبهم، كما فعل كثير من أترابه ومجايليه. ولكنه لشدة إحساسه بالتميز، جند نفسه لخدمة شعره، ولتثبيت موقعه المتقدم في حركة الحداثة، موزعاً حياته بالتساوي بين اقتراف الكتابة وخوض المعارك الشخصية والأدبية الصاخبة للدفاع عنها. ورغم ما كانت تشي به ملامح وجهه الظاهرة من بشاشة أبوية وحضور أليف محبب، لم يكن البياتي يتورع، بما أوتي من ذكاء لماح وسخرية جارحة، عن الفتك بكل خصومه ومنافسيه، أو الذين يرى فيهم تهديداً محتملاً لمكانته الشعرية ولأناه المتفاقمة. ولم يكن الشاعر ليرضى في الوقت نفسه أن يقيم هانئاً في مناطق الحياة المعتدلة، بل كان يرى سعادته في المهب العاصف للأشياء، وعلى الأطراف الضدية للأفكار والقناعات، وللعلاقات الإنسانية المتفاوتة صداقة وعداوة. إلا أن البياتي الذي نجح في خسارة كثير من صداقاته، وكسب كثير من العداوات، بدا لحظة رحيله، في دمشق قبل عقدين من الزمن، وفي مثل هذه الأيام بالذات، غريباً شبه وحيد، منبتاً على وجه التقريب، حتى عن أولئك الذين أحاطوا به واحتفوا بتجربته أشد الاحتفاء في لحظات صعوده المتسارع.
على أن أحداً من متابعي البياتي وقرائه لم يكن ليتصور بأي حال أن يتراجع اسم الشاعر ونتاجه الغزير إلى خانة النسيان، وهو الذي اعتبر، مع السياب ونازك، أحد أكثر رواد الحداثة شهرة ومحلاً للحفاوة والمتابعة والتكريم. صحيح أن النجاح الذي أصابه يدين ببعض منه إلى تعهده بالعناية من قبل الأحزاب الشيوعية العربية ومنظومة اليسار الدولي، ولكن الصحيح أيضاً أن بعضه الآخر متصل بثراء تجربته وتنوعها، وبقدرته الماكرة على الخروج من نفق المباشرة والواقعية الفظة. ومع ذلك، فإن المبالغة في احتضان البياتي من قبل المنظومة العقائدية التي تبنته لم تكن ناجمة عن الافتتان بتجربته الإبداعية، بل بدت في لحظة ما بمثابة «مكافأة له على إخلاصه العقائدي»، خصوصاً بعد انعطافة السياب الدراماتيكية باتجاه المشروع العربي القومي. هكذا، تم تطويب البياتي على سدة الشعر «الملتزم» المدافع عن المقهورين والمضطهدين في الأرض، في حين تعرّض صاحب «أنشودة المطر» إلى أنواع السباب والتجريح كافة، ودعاوى الردة والتخوين. وليس أدل على الارتباط الوثيق بين صعود نجم البياتي وصعود القوى السياسية التي تبنته ناطقاً باسمها، ومعبراً عن أفكارها ومعتقداتها، من التراجع الواضح لنجوميته ولمنسوب الاهتمام بشعره بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ومعسكره الحليف في نهاية الثمانينات من القرن المنصرم. حتى إذا ما مر وقت قصير على رحيله، بدأ نجمه الشعري في الخفوت، فيما بدأ اسمه المدوي يترنح شيئاً فشيئاً تحت المطرقة الثقيلة للنسيان. ومن حقنا جميعاً، كتاباً وقراء ومتابعين، أن نطرح الأسئلة التالية: هل كان البياتي ظاهرة إعلامية تراجع وهجها بتراجع الآيديولوجيا التي تبنتها؟ وهل عاد شعر البياتي إلى حجمه الطبيعي بعد أن فقد القدرة، بسبب الموت، على الترويج المفرط لنفسه ولكتاباته؟ وإذا كان تراجع الظهير الآيديولوجي للتجربة الشعرية يفضي بالضرورة إلى تراجعها، فلماذا لم يسقط شعر نيرودا ولوركا وأراغون وإيلوار، وغيرهم ممن اعتنقوا الفكر الماركسي، في حين سقط المئات ممن حولوا الآيديولوجيا إلى رافعة وحيدة لتجاربهم الهشة البائسة؟ ولماذا من جهة أخرى تظل أسماء السياب وقباني ودرويش حاضرة في الأذهان كما في مواقع التواصل، بينما لا تجد أسماء أخرى، وبينها البياتي، الصدى نفسه والاحتفاء إياه؟ ثم هل من الإنصاف في شيء أن نضع كل ما كتبه البياتي في سلة «اليقين» العقائدي، ونتناسى أعماله الأخرى التي تنقب عن الشعر في تربة الشكوك والأسئلة الحارقة؟
لا تتسع هذه الفسحة المحدودة بالطبع للإجابة عن هذه الأسئلة، أو لإعادة قراءة النتاج الغزير للبياتي بشكل هادئ معمق. لكن ذلك لا يمنع من ملاحظة أن كثيراً من نتاج البياتي المبكر كان أشبه بتعميمات عقائدية وكليشيهات سياسية مباشرة يغلب فيها الوظيفي على الجمالي، وتتحول الكتابة إلى أداة لتمجيد قوى الثورة العالمية وهجاء القوى التي تناهضها. وهو ما نجد تمثلاته في أعمال الشاعر الأولى، مثل «المجد للأطفال والزيتون» و«كلمات لا تموت» و«عشرون قصيدة من برلين»، حيث تبدو النصوص أقرب إلى الشعرات والأفكار المعلبة منها إلى أي شيء آخر: «صوت لينين الأخضر العميق لا يزالْ \ يهدر في العالم، والرايات في الجبالْ \ تسدّ درب الشمس \ والآلات والأنوالْ \ أسمعها تنبض في قلوبكم يا إخوتي العمالْ». وفي رثائه لأحد المناضلين ضد الفاشية، يقول البياتي: «سنابل سبعٌ من اليونانْ \ من أم ديمتروف، من صوفيا ومن أطفال كردستانْ \ حملتها إليك يا رفيقنا تيلمانْ \ المجد للإنسان \ لعالم يولد تحت الراية الحمراءِ \ تحت راية العمال، يا رفيقنا تيلمانْ \ لحبة القمح التي تمدّ عبر قبرك الأجفانْ \ للطفل والكادح والفنانْ \ المجد للبحر وللربان». ولم يوفر البياتي من هجائه اللاذع كثيراً من زملائه الشعراء، تحت ذرائع مختلفة، من بينها مواقفهم السياسية المتذبذبة، أو استخذاؤهم للسلطة، أو تهالكهم على الملذات. وإذا لم يكن يعمد إلى ذكرهم بالأسماء الصريحة، فنحن لا نلبث أن نهتدي إليهم من خلال القرائن والنعوت، كما في قصيدة «صورة تقريبية لبورجوازي صغير يقرض الشعر»، حيث نقرأ «رأيته في سنوات الموت والحصارْ \ ممثلاً في الشام \ دور الذي تعبده النساء – دون جوانْ \ دور صديق قائد الأركانْ \ معلقاً من ذيله كالببغاء الأعور السكرانْ \ يشرب بالمجانْ \ ينشد شعراً للصوص الثورة الخصيانْ \ في هيئة الأركانْ».
على أن المشكلة الحقيقية في بعض شعر البياتي لا تنحصر في الرزوح تحت وطأة الشعار السياسي فحسب، بل ثمة تغييب واضح للذات الفردية، في مشاعرها الحميمة وهواجسها المحتدمة، لمصلحة الأنا الجمعية التي تضغط بثقلها على الشاعر الذي يستمرئ من جهته كونه منشد الجماعة وحادي أفراحها وأتراحها. والغريب في الأمر أن التفاقم شبه المرَضي للأنا عند البياتي لم يتم استثماره في شعره بشكل مناسب، بل تم فصل الأنا عن مسارها الطبيعي لاستثمار «تضخمها» في صياغة الكليشيهات والتعاميم السياسية، كتلبية منه لنداء «الواجب» الأخلاقي. هكذا، باتت الأفكار المجردة، لا الحالة الشعورية، هي الأساس والمنطلق، وباتت الكتابة في بعض مراحلها عملاً موضوعياً، لا انبثاقاً جامحاً لعواصف الداخل. وإذا كان البياتي في كتابه «حرائق الشعراء» قد استشهد بمقالة لمحمد البطراوي، مفادها أن البياتي، وخلافاً للسياب، يعمل على «إشراك الآخرين في شعره، ويغلب الهم العام على الهم الخاص»، فإن هذه الملاحظة في عمقها تصب في مصلحة صاحب «منزل الأقنان» الذي عرف من خلال حفره الشاق في تربة ذاته كيف يلتقي مع ذوات الآخرين. كما نلاحظ في كثير من دواوين البياتي فقرا ًواضحاً في التوزيعات الصوتية، ورتابة في الشكل، وقصراً مفرطاً في السطر الشعري يترافق مع الإلحاح على التقفية التي تذكرنا بفن السجع، لشدة نمطيتها وقربها بعضها من بعض.
لكن ما ورد ذكره ليس الوجه الوحيد لشاعرية البياتي، ولتجربته المديدة التي يُحسب لها تنوعها وترحلها القلق بين الأشكال والمقاربات المختلفة. فمن الظلم بمكان ألا نستثني من بدايات الشاعر المشار إليها ديوانه المميز «أباريق مهشمة» الذي يتجاوز فقر التشكيل وآفات التنميط الأسلوبي وبرودة الكتابة، ليتلمس الشعر في تدفقه التلقائي وأماكنه اللصيقة بالروح: «سأكون! لا جدوى، سأبقى دائماً من لا مكانْ \ لا وجه لا تاريخَ لي، من لا مكانْ \ الضوء يصدمني وضوضاء المدينة من بعيدْ \ نفس الحياة، يعيد رصفَ طريقها سأمٌ جديدْ \ أقوى من الموت العنيدْ \ وأسير لا ألوي على شيء، وآلاف السنينْ \ لا شيء ينتظر المسافرَ غير حاضره الحزينْ». وسيكون من الإجحاف بمكان ألا نلاحظ ما شهدته أعمال البياتي اللاحقة، مثل «مملكة السنبلة» و«بستان عائشة» و«قمر شيراز» وغيرها، من تطور واضح على مستوى الأسلوب والتكثيف الصوري والرؤية إلى العالم. ففي هذه الأعمال، ينتقل الشاعر من الأشكال الرتيبة والسطور المتقاربة والمسجعة نحو التدوير والنص المفتوح، الخالي من التقفية المعيقة لنموه الداخلي. كما تتوارى الموضوعات السياسية والدعوية المباشرة، ليحل محلها نزوع تأملي صوفي يتحد فيه الماضي بالحاضر والمستقبل، وتتخفى فيه الذات الفردية وراء عشرات الأساطير والرموز التراثية والدينية والإنسانية. 
وفي هذه الأعمال يجسد البياتي الوجه الأصفى لشاعرية الهجرة والرحيل، باحثاً في منفاه الجسدي والنفسي عما يجعل من لغة الشاعر موطئاً لروحه ووطناً لأسئلته الحائرة: «أي حبّ هو هذا؟ \ عندما يكتشف الشاعر في منفاه سرّ الآلهة \ عندما يصبح هذا النص مفتوحاً \ وهذا القرْع في شاهدة القبرِ \ حضوراً في الوجودْ \ تنهض الوردة من تابوتها \ حاملة نار جنون العشقِ \ نار الملكوتْ». وفي «كتاب البحر» الذي سبق رحيله بقليل، يستعيد البياتي كثيراً من عذوبة اللغة التي عكستها مجموعته المبكرة «أباريق مهشمة»، ليعلن على الملأ «تعاليمه» الملفوحة برياح الحسرات: «سأقول للكلمات كوني وردة \ سأقول للشعراء كونوا صادقينْ \ سأقول للسنوات عودي \ للحياة تفجّري \ سأقول كوني وردة لغزالة البحر العشيقْ \ سأقول للأزهار كوني خيمة لحبيبتي \ وسأشعل النيران في المدن الغريقة تحت قاع البحر والورق العتيق». وإذا كان بعض شعر البياتي سيسقط بسقوط المناسبة التي أنتجته، أو الأفكار التي استند إليها، فإن بعضه الآخر سيظل، بما يمتلكه من مساحات تأويلية وتبصر حدسي وصور بعيدة الغور، قادراً على مقارعة النسيان والصمود في وجه الزمن.