أشياء لا تموت وأخرى لا تحيا – بقلم حسونة المصباحي

حسونة المصباحي
اعتقدت شعوب بلدان هذا “الربيع” أن الانتفاضات التي أطاحت بأنظمة فاسدة ومستبدة سوف تحقق لها الكرامة والحرية والعدالة. لكن سرعان ما ذبل الحلم الجميل لتعيش هذه الشعوب كوابيس جديدة وفتنا قاتلة، ونزاعات مدمرة.

في العشرينات من القرن الماضي، وكانت أوروبا لا تزال تتخبط آنذاك في تبعات كوارث الحرب الكونية الأولى، وحرائقها الرهيبة، كتب الفرنسي بول فاليري في “كراساته” الشهيرة يقول إن المعضلة الكبيرة التي تواجهها الإنسانية هي الصراع الحاد بين أشياء “لا تعرف كيف تموت، وأشياء لا تمتلك القدرة على أن تحيا”. ولعله يقصد من خلال هذه الكلمات القليلة أن الأفكار والمعتقدات القديمة التي سعى فلاسفة الأنوار الذين مهدوا للثورة الفرنسية، والعلماء الذين أحدثوا ثورة هائلة في مجال الطب، والصناعة، وغير ذلك، إلى محوها من الوجود باعتبارها تنتمي إلى الماضي، لا ترغب في الاختفاء، بل هي تصر على البقاء، وعلى فرض نفسها على الشعوب والمجتمعات. لذلك لم تتمكن الأفكار والمعتقدات الجديدة التي جاءت بها الثورات الفلسفية والسياسية والعلمية من فرض وجودها، ومن امتلاك القدرات الكافية لكي تحقق أهدافها المتمثلة بالخصوص في إحداث التغيرات والتحولات الهائلة التي بشرت بها.

وكان بول فاليري على حق في ما ذهب إليه. ففي الفترة التي كتب فيها كلمته المذكورة كانت أوروبا قد غرقت من جديد في الشوفينية القومية التي أدت إلى انفجارات اجتماعية خطيرة، وإلى بروز الفاشية في إيطاليا، والنازية في ألمانيا، وإلى أحداث ومظاهر أخرى كشفت أن الإنسانية عاجزة عن التخلص من ماضيها، ومن معتقداتها القديمة، وبريبة وحذر وشك، تستقبل كل ما هو جديد سواء في المجال الفلسفي، أو العلمي، أو الصناعي، أو غير ذلك.

وإذا ما نحن طبقنا الفكرة التي جاء بها على العالم العربي، فإننا نزداد اقتناعا بأن بول فاليري كان مصيبا. فقد اعتقد رموز عصر النهضة العرب في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين أنهم سيتمكنون من تخليص الشعوب العربية والإسلامية من ماضيها الموسوم بالتخلف والجهل والاستبداد والتزمت الديني والعقائدي، إلا أن قوى ذلك الماضي البغيض سرعان ما استعادت جبروتها وسطوتها لتشرع في الحين في تدمير المشروع النهضوي، ومحاكمة رموزه الكبيرة أمثال طه حسين، وعلي عبد الرازق، وسلامة موسى، والطاهر الحداد، والشيخ عبد العزيز الثعالبي، وعبدالرحمان الكواكبي، وغيرهم.

وانطلاقا من الخمسينات، وحتى السبعينات من القرن الماضي، تمكنت القوى المنتصرة للتقدم، وللأفكار التحررية، ولحرية المرأة، ولبناء الدولة الحديثة، من تحقيق إنجازات هامة في مجالات مختلفة ومتعددة حتى ظن بعض المفكرين، وبعض رجال السياسة وعلم الاجتماع أن العرب لن يعودوا أبدا إلى النبش في ماضيهم الأسود، إلا أن الخيبة كانت مرة. فقد عادت القوى التي تتقن لعبة شد الشعوب إلى الوراء وإغراقها في الأوهام والمعتقدات الباطلة إلى الظهور من جديد لتنسف جزءا كبيرا مما تحقق في فترة التطلع إلى المستقبل.

كما أثبت “الربيع العربي” صحة فكرة بول فاليري. فقد اعتقدت شعوب بلدان هذا “الربيع” أن الانتفاضات التي أطاحت بأنظمة فاسدة ومستبدة سوف تحقق لها الكرامة والحرية والعدالة. لكن سرعان ما ذبل الحلم الجميل لتعيش هذه الشعوب كوابيس جديدة وفتنا قاتلة، ونزاعات مدمرة كما كان حالها في ذلك الماضي الذي ظنت أنه ولّى وانتهى، ولن يعود أبدا…

صحيفة العرب