فؤاد طمان.. والبحر – بقلم أحمد عبد المعطي حجازي

372018حجازي

لو كان على أن أعرف الشاعر فؤاد طمان بكلمة مختصرة لقلت انه شاعر إسكندرانى أو شاعر البحر والحور كما قال هو عن نفسه فى احدى قصائده. فالإسكندرية ماثلة فى كل شعره. الإسكندرية كما يراها ويعيشها. والإسكندرية كما يتذكرها ويحن لها ويقف على أطلالها. والبحر حاضر دائما فى شعر فؤاد طمان، والحوريات حاضرات فى الصورة، وفى خلفية الصورة. الرمل، والريح، والمد والجزر والاتساع والمدى، والمعلوم والمجهول، والواقع والأسطورة.

وأنا عاشق للإسكندرية والبحر، وللحور، وللشعر، و صديق قديم لفؤاد طمان. وقد عدت أخيرا لأعماله التى أهدانى منها طبعة جديدة فقرأتها مجتمعة قراءة جديدة تواصلت فيها مفرداتها كما تتواصل الكلمات فى الجملة المفيدة وتنطق بما لم تكن تنطق به من قبل. لأن شعر الشاعر سعى دائم يبحث فيه صاحبه عن عالمه ويصل إليه قصيدة بعد قصيدة ومرحلة بعد مرحلة حتى يمتلكه كله ويرفع عليه رايته. وهكذا تكون قراءة القاريء للأعمال الكاملة مختلفة عن قراءته للمفردات. وهذا ما سوف أقدمه فى هذه المقالة التى أبدؤها بتفسير ما قصدته حين قلت ان فؤاد طمان شاعر إسكندرانى والبحر حاضر فى شعره بقوة.

البحر حاضر فى شعر فؤاد طمان، وحاضر أيضا فى شعر غيره، خاصة شعراء البلاد والمدن المطلة على البحر، ومنها الإسكندرية التى كان البحر موضوعا من موضوعات شعرائها بأجيالهم المختلفة ولغاتهم المتعددة.

البحر موجود فى الشعر البطلمى صورا عابرة واستطرادات عند بعض الشعراء و موضوعا أصليا عند بعضهم الآخر. والشاعر الإسكندرانى البطلمى أبو للونيوس يتحدث فى ملحمته «الأرجو نوتيكا» عن البحر ويروى مغامرات بطل الملحمة جازون ورفاقه فى السفينة «أرجو» بحثا عن الجزة الذهبية.

والبحر موجود فى قصائد شعراء الإسكندرية فى العصور الإسلامية ومنهم ابن قلاقس الذى عاش فى القرن الثالث عشر الميلادي:

كل نون من المراكب، فيها

ألفات مصفوفة للصوارى!

والبحر يزداد حضورا فى دواوين شعراء الإسكندرية فى هذا العصر المصريين والأجانب. عبدالرحمن شكرى، وخليل شيبوب، والقبانى، والأنصارى، والعتريس، وكفافيس اليونانى، ومارينيتى، وأونجاريتى الإيطاليين. فضلا عن الشعراء الزوار الذين مروا بالإسكندرية أو أقاموا فيها بعض الوقت مثل أمل دنقل الذى نذكر له قصيدته البديعة «إجازة فوق شاطىء البحر».

البحر حاضر عند هؤلاء جميعا. لكن حضوره فى شعر البعض يختلف عن حضوره فى شعر غيرهم. البحر فى معظم الأحيان موضوع يقف أمامه الشاعر ليحدثنا عنه كما يفعل مع غيره من الموضوعات. يصفه ويصور ما يراه فيه وما يشعر به، ويظل محافظا على المسافة التى تمكنه من رؤية أبعاده والانفعال بها. لكن البحر يتحول عند شعراء آخرين من موضوع أو مادة للوصف إلى عالم يتحرك فيه الشاعر ويتحاور معه ويتلقى عنه.

فى «إلياذة» هوميروس حين أشار زيوس للرياح بأن تهب وتدفع سفن الاغريق إلى طروادة نجد أنفسنا فى هذا العالم الذى يقدمه لنا درينى خشبة فى ترجمته العربية الجميلة فيقول «انتشرت الأشرعة»، وهمت الفلك، وما عتمت أن صارت من الماء والسماء فى خضرتين، ومن درع الجند وزبد الموج فى لبدتين، ومن قلوب الشعب الهاتف فوق الشاطىء الشاحب فى بحر من الأمان. واضطرب البحر بعرائس الماء وأبكاره، أسرعن من كل فج يحيين أبطال هيلاس.

ونجد هذا العالم فى «ألف ليلة وليلة» فى رحلات السندباد البحرى التى يحدثنا عنها الدكتور حسين فوزى فى «حديث السندباد القديم» فيقول ان البحر فى قصة السندباد هو الغاية التى تنتهى إليها القصة. «البحر هو ممثلها الأول (البروتاجونست) بطل الرواية فى الفرنسية أو انها حوار بين اثنين: البحر والسندباد حوار يتطور من الهدوء إلى العنف ومن تبادل الود إلى تبادل الكلمات والمناجزة والصراع».

ونجد هذا العالم أخيرا فى بعض قصائد أونجاريتى، ومارينيتى، وفى قصيدة أمل دنقل التى اشرنا إليها فى السطور السابقة. ونجده فى قصائد فؤاد طمان التى لا نستطيع أن نميز فيها بين الشاعر والبحر والإسكندرية. ففى هذه القصائد تتحاور هذه الأطراف الثلاثة وتتفاعل وتتحد وتصبح عالما تتداخل فيه الصور وتتجاوب الأصوات والأصداء:

رمانى «أبوللو» على لجج البحر،

قال: هنا ستغنى وتتبعك الكائنات

لك الآن هذا المدى الأزرق الأزلى

وهذا الفضاء الرحيب

على الماء عرشك

ليس يشاركك الملك إلا النجوم الزواهر حينا

وحينا تشاركك الملك تلك الغزالة

والأرض ليست لك، الأرض للبؤساء العبيد

وللآثمين الطغاة!

فى هذا العالم تتوارد الخواطر ويرى الشاعر الذى ينظم بالعربية ما يراه الشاعر الذى ينظم بالإيطالية أو الفرنسية. والعلاقة التى وجدها فؤاد طمان فى هذه الأبيات بين البحر والحرية من ناحية وبين الأرض والطغيان من ناحية أخرى وجدها شارل بودلير قبله بقرن ونصف فى قصيدته «الإنسان والبحر» التى ترجمتها حنين عمر وتبدأ هكذا:

أيها الإنسان الحر، دائما ستعتز بالبحر

البحر مرآتك

إنك تتأمل روحك فى الامتداد اللا نهائى للجنة.

وحين نقرأ المقطع التالى الذى يبدأ به فؤاد طمان قصيدته «أنشودة أورفيوس الأخيرة».

وأورفيوس فى الأساطير اليونانية شاعر مغن هبط إلى العالم الآخر ليستعيد حبيبته من الموت فسحر بغنائه الآلهة التى أذنت له باصطحاب حبيبته إلى الدنيا شريطة ألا ينظر خلفه:

يقولون انى خصب الخيال

أرد النجوم لأبراجها

وأعد الرمال

وأوقظ محبوبتى من سبات الرحيل

وأمضى بها فى شطوط الأبد

أطارحها فى البحار الغرام

وأنجب منها الجميلات فوق الزبد

وفى سورة الحب والبغض

اجتاح مثل العواصف أفق المحال!

نقرأ هذا المقطع فنرى فيه ما يذكرنا بالمقاطع الأولى فى قصيدة الشاعر الفرنسى سان جون بيرس «الفلك ضيقة»:

الفلك ضيقة، ضيق مضجعنا

امتداد البحر ما أوسعه. وكعرض السماوات والأرض

ملكنا فى حجرات الهوى المختومة!

نعم. فالبحر والحب شيء واحد كما يقول المترجم التونسى مصطفى القصرى وهو يقدم ترجمته العربية لهذه القصيدة.

ولا بأس من استطراد آخر تزداد به الفكرة وضوحا، وهو من قصيدة خليل شيبوب «البحر مرآة الحياة»:

أرى البحر مرآة هذى الحياة

فهو يحاكى مداها اتساعا

وأبعاده مثل أبعادها

يضيق على الفهم أن تستطاعا…

وقد وضع الله حدا له

وحدا لأعمارنا وانقطاعا

فنحن كأسماكه فى الوجود

يغول الكبير الصغير ابتلاعا

وأعمارنا كقراراته

انخفاضا إذا اختلفت وارتفاعا

وأيامنا مثل موجاته

تجىء سراعا وتمضى سراعا!

> > >

هكذا نرى أن البحر فى شعر فؤاد طمان ليس مجرد موضوع وانما هو عالم أو حياة بكل ما فى الحياة من تجارب وهموم كبرى وتفاصيل يومية وصور يستدعى بعضها بعضا.

انه وهو يتحدث عن البحر يتحدث عن الإسكندرية. إسكندرية الماضى، وإسكندرية الحاضر. الإسكندرية كما يعرفها ويعيشها البيت والأسرة والمرأة والعمل.

وهو مقبل على الحياة لكنه يرثى نفسه ويرثى أصدقاءه الراحلين. يسترسل فى الحلم حتى يصدق أحلامه ويجعلنا نصدقها معه، ثم يفتح عينيه على الواقع الأليم فيبكى ونصدقه فنبكى معه. لأننا نجد أنفسنا فيما يقوله عن نفسه، فى أحلامه، وفى أوهامه وآلامه:

لاشىء ينقصنى فعندى كل ما أحببت واشتهت العيون

بيتى على الميناء تعرفه الجميلة والنوارس والسفن

تأوى له ريح الصبا وتمر مسرعة به ريح الشمال

يطل من أعلى على مربى المحار

ومهد ربات البحار

غدوت وحدى فى المدينة سادن الربات

وحدى كاتم السر الدفين!

وهو يسترسل فيقول:

فى عشى الوردى جارية منعمة

أبوها من ملوك الروم

ناضرة متوجة على عرش الصبابة والفتون

أنا محور الدنيا لديها

لا ترى فى العيوب

جرت أغانى العشق فى دمها

وصهباء التلهف والجنون

يقول ويسترسل، ونحن نصدقه، لأنه يحسن القول ولا يفتعله، ثم يصحو من حلمه أو وهمه الواقع فيحدثنا عنه ونحن نصدقه، لأنه يحسن القول فيه ولا يفتعله.

فى العالم السفلى موتى فى الجحيم

على البسيطة مركبات السبى مترعة

بأحزان الصبايا

حفها الحراس

آباء المدينة فى الطريق إلى القبور أو السجون

وأنا هنا مازلت منتشيا

تغيب بى السلافة فى مروج الوهم

أهذى تحت أجنحة الطيور الزرق

والشهب التى تنهل ساطعة على مر القرون

لاشيء ينقصنى.. لدى بدائع الدنيا،

وأسرار الكواكب كلها…

فى الضفة الأخرى المشانق والعويل،

وحكمة الطاغوت ضاحكة مجلجلة الصدي

وحماقة البشر الذين استسلموا لطغاتهم

حذر المنون!

……

الآن ينقصنى الذى سلبته منى الريح

مسرعة مقهقة.. وينقصنى اليقين!

لغة سلسة رائقة ومثقفة، تختزن الكثير وتوحى به ببساطة. أشعار القدماء والمحدثين، العرب والأجانب، امرؤ القيس، والمتنبى، وايليا أبوماضى، ومارينيتى. القرآن والتوراة. التفاصيل النثرية والتركيبات المجازية والتواريخ والأساطير، والأوزان التقليدية إلى جانب الأوزان الحرة. هذه اللغة بما فيها من تضمينات ورموز تجسد تاريخ الإسكندرية القديم والحديث وتعبر عن طبيعتها الكوزمو بوليتانية. نستطيع أن نقول انها لغة إسكندرانية.

جريدة الاهرام