تأملات شاعر حكيم هاجسه الخير – بقلم محمّد عبد الرّحيم سلطان العلماء

3052018

كما يتفاوت الناس في مراتبهم، تتفاوت القصائد في مراتبها، وهذه الرائعة من روائع صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، هي كالملكة بين قصائده تحيط بها الوصائفُ من كل الجهات، وهي تميسُ مثل عروسٍ حسناء زاهرة الخدّ، وضاحة الجبين، باسمة الثغر، تختال بالشال الحرير، والخالِ الأسود وهو يزيّن صفحة خدها الأسيل.

ثلاثون بيتاً مثل عقد اللؤلؤ المنظوم، وإنني أتحداك أيها القارئ الكريم إذا استطعتَ أن تنزعَ منها بيتاً واحداً دون أن يختلّ نظامُ القصيدة.

وهذا هو الفنّ الصادق الزاهي الذي يسحر اللبّ، ويبهج النفس: أن تكون القصيدة متلاحمة الأجزاء، متنامية الصوَر، ساحرة الموسيقى والإيقاع، باهرة القافية والرَّوِيِّ، وتالله ما زال حرف (الحاء) واحداً من أروع حروف القوافي التي تختزن أحزان النفس وأشجانها وتأملاتها ومراثيها في قديم الشعر وحديثه، وها هي القصيدة بين أيديكم تنبئكم عن فخامة شأنها: شكلاً ومضموناً، فهي تعبير بديع عن تأملات الذات الإنسانية وتحديق عين القلب في سيرورة الحياة، وهي استلهام فريد لحكمة الإنسان وخبرة الروح والتراث.

أطفئ النور بان وجه الصباح

وامسح النار عن فم المصباح

ثم لملم ما كان في الليل يجري

من عذارى الشعر الصِّباحِ المِلاحِ

هو بابٌ فَتحتُهُ فتَمطّى

لوذعيّ في فنّه الصدّاح

حين يكون الشعر عذباً جميلاً، ناعماً رقراقاً تصبح مهمة شرحه وتفسيره غايةً في الصعوبة، وهذا المطلع من أين ما جئتَه وجدتَه مطلعاً متفرداً في لغته وخياله وتصويره البديع، وإيقاعه الموسيقي البهيج، ويكفيك هذه المقابلة الفنية بين النور والنار، وهذا الجناس اللطيف المرهف بين الصباح والمصباح.

وهذا التناغم الخلّاق بين الصِّباح والمِلاح، فالبيت كله جمال في جمال، وبحقّ أقول: إنني لا أستطيع له تفسيراً، وجمالُه كامنٌ في وضوحه وعذوبته وأشجانه، وهذه الحركة الفنية التي تستشعرها تجري في ألفاظه حين يتمطّى الشعر، ليلهمه أبدع الأنغام والأفكار.

ولرجم الظنون كرٌّ وفرٌّ

في مَقامَيْ غُدوةٍ ورواحِ

والتقاءُ الحياة بالموتِ وصلٌ

واتصالٌ بعالم الأشباحِ

بين سيرورة الوجود وأُنسٍ

بالتعلّاتِ عن وجودٍ مباحِ

في هذا المقطع العميق من القصيدة تنبثق فكرة التأمل في سيرورة الحياة وصيرورة التحولات، فالإنسان مهما كان واثقاً من الحقيقة إلا أنّ هواجس الظنون لا تنفكّ تغزو قلبه، وتقلق مضجعه في الصباح والمساء، وهذا هو طبعُ الإنسان، وهو شعور نابعٌ من طبيعة الأيام التي لا تثبتُ على حال.

ولا يكاد يأمنُ الإنسانُ جانبها حتى تُفاجئه بما لا يسرُّ الخاطر، حتى إذا غادر الإنسان هذه الدنيا والتقى الموت بالحياة دخل في عالم البرزخ الذي هو حياة جديدة إذا كانت روحه مطمئنة واثقة بالمصير، مستنيرة بنور الكتاب، حيث تنكشف سيرورة الوجود في تلك اللحظة، ويزول غطاء الأنس بالأماني والتعلّات التي كان يعلّل الإنسان بها نفسه قبل مفاجأة الموت وصدمته.

والسؤال الأهمّ كيف بدأنا

بين كيفٍ وبين كمٍّ صُراحِ

ثم كيف الحسُّ المفكّر محْضاً

في انتقالٍ مجردٍ وانزياحِ

وصراعٍ ما بينَ خيرٍ وشرٍّ

بين نورٍ وظلمةٍ مستباحِ

وهذا هو سؤال العقل الأزلي: من أين جئنا وإلى أين المصير؟ وعلى جواب هذا السؤال يتوقف مصير الإنسان وطبيعة تفكيره، فمن عرف بدايته عرف نهايته، وهل وقعت محنة الإنسان إلا لإعراضه عن جواب هذا السؤال الفلسفي الفطري العميق البسيط، هذا السؤال الذي يصوغه الفكر المَحض لدى الفيلسوف، ويصوغه المؤمن الذي يعرف الصراع بين الخير والشر، وبين الظلمة والنور، وهل هناك نعمة أجلّ وأعظم من نعمة إخراج الإنسان من ظلمات النفس إلى أنوار القلب والعقل والروح (هو الذي يصلّي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما).

كُنْ بهذا الوجود حُرّاً طليقاً

عِشْ وحَلّق به بغير جناحِ

وتُلخّص حقائق الكون علماً

في اتساقٍ على جميع النواحي

بين كَونَين واضح وخفيٍّ

وطريقين مغلق ومُباحِ

إنّ تحقيق الذات العالمة العارفة لا يتحقق إلا بالتحليق عالياً في سماء البحث عن المعرفة ونور العرفان، وها هنا يدعو صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد الإنسانَ أينما كان إلى التحليق عالياً، لأن ذلك هو علامة الحرية، وأعظم مطالب الحرية هي حرية الروح، وأعظم وسائل تحقيقها معرفة الله تعالى، حيث تسكن الروح إلى خالقها وتتحرر من سلطة الأغيار.

وقديماً قال أرسطو للإسكندر المكدوني في وصيته له: «وكنْ عبداً للحقّ، فإنّ عبدَ الحقّ حُرّ»، وصدق فيما قال، وهذه معادلة صعبة جداً لا تهتدي إليها إلا الأرواح القوية المستنيرة التي تتذوق طعم الحرية على أبواب الذل في حضرة مولاها العظيم، حيث تتلخص لها الحقيقة متسقة لا شتات فيها، لأنّ معرفة الله تعالى هي أساس كل خير فينتظم القلب، وتلوح نار العرفان في الوادي المقدس، ويخلع الإنسان نعل الخطيئة ويغتسل بأنوار المعرفة والعبودية الخالصة، فتتضح له معالم الكون: خفاءً ووضوحاً، وتلوح له أعلام الطريق فيسير على نور وهداية.

صورةُ الشيء عند فهم أرسطو

للهيولي جاء في الألواح

ذاك فهمي له على بُعْد وقتي

بُنْيةُ الشيء بانَ للشراحِ

بين عقلي وبين قلبي صراع

منه وجدي ومن أساه نُواحي

وهذه إطلالةٌ فلسفية على واحدة من أعمق الأفكار وأكثرها تأثيراً في فلسفة الفيلسوف اليوناني أرسطو، صاحب الفكرة الشهيرة (الهُيولى) التي هي أساسُ فلسفته التي فسّر بها النظام الكوني، ومعناها المادة الأصلية للأشياء، حيث لا يوجد اختلافٌ في أصل المادة، وإنما يقع الاختلاف في الصور الناشئة عن هذه المادة في الجماد والنبات والحيوان والإنسان، فصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد يستلهم هذه الفكرة لتفسير اختلاف الأشياء على الرغم من اتحادها في الجوهر، حيث ضرب مثلاً لذلك، ذلك الصراع العميق بين القلب والعقل، وما ينشأُ عنهما من عواطف متصارعة تتراوح بين الوجد والحنين وبين البكاء والنواح.

شاعرٌ في فيلسوفٍ يوازي

بصريح التلميح والإفصاحِ

منهجي فيه منهج العقل يُذكي

جذوةَ الفكر للعقول الشِّحاحِ

وصراع الحياة سلم وحربٌ

دونما غاية وأيّ صلاحِ

وهنا يفصح صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد عن نقطة الالتقاء بهذا الفيلسوف الشهير: حيث يلتقي الشاعر بالفيلسوف، والمعنى هو إلحاحُ العقل بالأسئلة، ومجيء الجواب تلميحاً وتصريحاً، وأرسطو على الرغم من اشتغاله بالفلسفة فإنّ له عناية كبيرة بفن الشعر وله كتاب شهير هو «فنّ الشعر» ظل دستوراً عميق التأثير لقرونٍ طويلة، وهذا هو منهج الجمع بين جذوة العقل المتوقدة بالقلق والأسئلة وبين نداء القلب الفياض بالحب والحنين والوجد، وأيّ عذاب فوق هذا العذاب، لكن العقول القوية تستخرج من هذا العناء زيتاً ونوراً ينير مصابيح الطريق، ويكشف الحقيقة عارية أمام بصيرة الشاعر الفيلسوف الذي يرى عبثية الصراع في هذه الحياة بين الحرب والسلم دون تحقيق أي غاية تعود بالنفع على الإنسان.

أينّ وضّاحُ يا قبيحةُ قولي

ما جناه الهوى على وضّاحِ

حينما زارك الخليفة وَهْناً

خبّئيه عن مرهفات السلاح

هل درى الصندوق أيّ وضيعٍ

غاب فيه بعُهدة المفتاح؟

وقديماً قال الفرزدق: إنّ للشعر سَجدات، كناية عن فخامة شأن بعض الأبيات والمقاطع، ولعمر الحقّ إنّ هذا المقطع هو إنسان عين القصيدة، فهو استلهام فريد لواحدة من أشهر القصص في تراثنا العربي.

أعني قصة وضاح اليمن، عبد الرحمن بن إسماعيل الخولاني (ت 89 هجرية) صاحب الوجه الوسيم الذي عشقته النساء حتى وصلت دورة العشق إلى أمّ البنين زوج الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، ثم غلب عليها عشقها حتى التقته في الطواف بمكة وطلبت إليه اللحاق بها في الشام، وهناك انكشف أمره لزوجها، فخبّأته في صندوقٍ أثيرٍ لديها، فجاءها الخليفة وطلب الصندوق وأخذه ثم حفر له.

ودسّه في التراب، واختفى وضاح اليمن منذ ذلك الحين لتظل قصته تشبه الأساطير التي تُلهم الشعراء أعذب المواقف وأجمل الألحان، وها هو صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد يبدع في إعادة رسم تلك الصورة التاريخية الشجية، التي تختزن غير قليل من الحزن والشك والعتاب، وكأنّ المقطع كان تمهيداً لما بعده من أبيات، حيث تعلو نبرة العتاب الحزين من ظلم القريب والبعيد ونكران الجميل.

صار سِرّاً مودعاً في الحنايا

واختفى السرّ دونما إيضاحِ

وعجيبٌ ما كان منك ومنه

قد وُقيتِ من همّه فارتاحي

ولمن طبعه الجحود سيلقى

يوم بأسٍ يعجُّ بالأتراحِ

وهكذا تمّ إسدالُ الستار على هذه القصة العجيبة، وظلت قصة وضاح اليمن سرّاً من الأسرار التي تتطلع النفوس

إلى معرفتها، فهي مما يتنافى مع تقاليد الروح العربية التي تعتد بالشرف وتكره الخيانة، لذلك يتعجّب صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد من هذه القصة المنافية لأخلاق الفرسان، فالفارس لا يدخل بيوت الآخرين خِلسة وخفية، بل هو يخطف قلب الظبية الحسناء ويدخل البيوت من أبوابها، لذلك جاء التعقيب البديع بأنّ من كان طبعه الخيانة والجحود سيلقى جزاءه في يومٍ مكتظّ بالأتراح والشرور.

كان سعياً منّا إليهم حثيثاً

ما رَعَوْه ونحن أهل السماحِ

كم بذلنا ولم نقُلْ كم بذلنا

من دماءٍ ونصرة وكفاحِ

ما خشينا فَداحةَ الهول يجري

لا ولا هزّنا عصوف الرياح

لقد قلت: إنّ قصة وضاح اليمن هي سرّ القصيدة ومفتاح فهمها، وكأنها كانت تمهيداً لهذه الخاتمة التي لا تخلو من نبرة الألم والعتاب لكل من لا يرعى الوداد والمحبة الصافية، حيث تعلو نبرة صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد بإبراز مكارم أهل هذا البلد الطيب المعطاء في رعاية الإخاء والحفاظ على العلاقات الطيبة.

لكن طبع بعض الناس هو الجحود والنكران، فكان هذا العتاب وهذا الشموخ بما تقدمه الإمارات في جميع المجالات من غير مِنّةٍ على أحد ولا انتظار جزاء ولا شكور، فضلاً عن بسالة فرسانها الذين يندفعون إلى ساحات الوغى لا تثنيهم الرياح العاصفة ولا الرماح القاصفة عن تقديم الواجب بكامل المحبة والشعور بالرضا والعرفان.

وبرزنا بكل شهم كريمٍ

ووهبنا الغالي من الأرواحِ

يا زماناً كلُجّة البحر يبدو

لك مِنّا مهارة الملّاحِ

ولنا النصر والصدارة دوماً

في نهار يعجّ بالأفراحِ

وكما كان مطلع القصيدة رائعاً يستعصي على الشرح والتفسير كانت خاتمتها كذلك: خاتمة تفيض بالسيادة والمجد والسؤدد، وشعراً يليق بهذا الفارس الشجاع الذي يحمل مجد الوطن في قلبه الباسل، هذا القلب الذي يتّسع للجميع، ويبذل من ماء الروح ما يسقي به شجرة الوطن، ويمنحنا بين الحين والآخر إحساساً عميقاً بالزَّهْوِ والفخر، فإنّ وطناً فيه قامةٌ عاليةٌ مثل قامة (بو راشد) لوطنٌ جدير بالفخر والاعتزاز.

يا أميرَ الكلمات الطيبات: سلامٌ على وجهك الطيب في هذه الليالي النيّرات، وقليلٌ جداً أن يقال لك: أبدعتَ وسَمَوْتَ. سلامٌ عليك.

جريدة البيان