الموسيقى الشعبية.. استثمار وتكوين ثقافي – بقلم د. عائشة الدرمكي

د
يتساءل أوليفر ساكس في كتابه (نزعة إلى الموسيقا): «هل يمكن لأحد أن يطور نزعة صافية إلى الموسيقى، من دون أيّ تغيرات مرافقة في الشخصية أو السلوك؟».. تساؤل يقوم على مجموعة من الفرضيات التي تتأسس على إمكانية تغيير الهُوية الموسيقية لمجتمع ما، الأمر الذي يجعلنا بصدد الربط بين الموسيقى التقليدية والموسيقى العالمية في عالم التزاحم والمتغيرات، الذي يجعل من الموسيقى الشعبية لبلد ما (عالمية) والموسيقى الشعبية في بلد آخر (محلية).

إن الموسيقى وبالتالي الفنون المرتبطة بها تشكل هُوية ثقافية للمجتمعات، ولأنها كذلك فهي تجعل من شعبيتها طريقا إلى تحديد سمات تلك الهوية وأنماط تطورها، فكلما تطورت وسائل الحياة ونمت كلما تطورت النظرة إلى الموسيقى باعتبارها ـ كما يقول ساكس ـ (نزعة صافية).

ولهذا سنجد أن الموسيقى اليوم لها شأن على المستوى النفسي والطبي والاجتماعي، بل والاثني باعتبارها نزعة أصيلة.

ولأنها ذات أبعاد قيمية وسوسيولوجية ترتبط بالثقافة والسياسة والاقتصاد، فإنها تقوم على مضامين حضارية مستمدة من التاريخ الإنساني، لذا سنجد موسيقا الشعوب بدأت في الارتقاء والتقدم بشكل متوازٍ مع ارتقاء تلك الشعوب وازهارها، فهكذا نهضت لدى الشعوب الغربية والآسيوية، لتنتقل من موسيقا الشارع والعروض الجماهيرية الشعبية، إلى منصات وصالات العروض الضخمة؛ حيث نجد موسيقى الجاز والكودو اليابانية، وغيرها تُعرض اليوم في أعرق صالات دور الأوبرا.

الأمر الذي يعني أن هذه الموسيقى انتقلت من تلك التكوينات الثقافية الشعبية إلى العروض النخبوية، التي جعلت منها استثمارا ثقافيا قائما على تطوير المنتج، وإعادة تشكيله في أنماط وأشكال تتناسب مع التكوينات الثقافية التي يُعرض عليها.

ولهذا فإننا في منطقة الخليج مع وجود دور الأوبرا والمسارح ذات التقنيات الهائلة علينا أن نلتفت إلى الموسيقى الشعبية والفنون المرتبطة بها بوصفها ممارسة ثقافية قادرة على التطور والارتقاء إلى منصات نخبوية؛ فكما نستضيف الفرق التي تعزف الجاز والفلامنكو وغيرها من الفنون والعروض، فإن فنوننا ليست بأقل منها إذا ما استهدفناها بوصفها استثمارا ثقافيا يمكن له أن ينافس إقليميا وعالميا، ولا نكتفي بتلك المهرجانات الخاصة بالثقافة الشعبية باعتبارها تخاطب جمهورا (شعبيا).

إن الفكر الذي يؤسس طريقة النظر إلى هذه الثقافة يقوم على (البنيان الثقافي)، الذي سيشكل فارقة في استثمار هذه الموسيقى، وقدرة دولنا في الخليج على التخطيط الاقتصادي الذي يتأسس على الثقافة التي تمثل هُوية المنطقة وبالتالي ترويجها في المنصات الثقافية العالمية.

صحيفة الرؤية