قال الراوي – بقلم ناصر الظاهري

ناصر-الظاهري

في البدء كانت الحكاية.. حكاية ذلك الإنسان الأول عائداً من رحلة صيده في الغاب والبراري، يضمه المساء مع تلك العائلة المنتظرة في قاع الكهف، المتحلّقة على جذوة النار، متلهّفة لسرديات الغائب بالأيام، متمنياً هو أن ينقل تلك الحكاية للابن البكر ليعرف خبرة الصيد، وإطعام الأسرة التي تقبع في الكهف الحجري، ولتسمعها الزوجة فتعذر له الغياب، والليالي المخيفة، وأصواتاً قاتلة كان يسرّبها المكان لآذان الصغار.
كان القص الشفاهي الذي تسرده الجدات والأمهات لأطفالهن ساعات المساء، وقبل أن يغفوا فجأة في أحضانهن أو فوق أرجلهن الممدودة، تلك الحكايات المسائية التي تتخذ أمكنة مختلفة، شتاء حول موقد نار يضفي على المكان دفئاً يأتي مع صوت الحطب المتقد، وربما دلة قهوة تثور أو أبريق شاي معطر بالهيل والزعفران، وصيفاً تبدأ الحكاية تحت ضوء القمر، ومن أعلى أسطح البيوت الساهرة التي تناظر النجوم المتسارعة أو السحب الماطرة، شكلت تلك الحزاوي، القصص، الحكايات، الفزورات، الخراريف مادة خصبة للذاكرة الطفولية، وبساطاً سحرياً كان يسافر بنا إلى عوالم مجهولة، وبحور مسحورة، وغابات مسكونة، وصحارٍ مهجورة، كانت تحملنا نحو فضاءات من الحب والسكينة والجمال والخير كله، ومرات تحملنا مع الجن والسحرة الطائرين نحو عوالم من التيه والسحر والغموض والليل الساكن بزرقة حالكة، وبرودة لا تقطعها إلا خطوات الهوام والدواب وأجنحة طائرة.
استطاعت تلك الحكايات الشفاهية، والمرويات الشعبية، والسرديات الحكائية بفعل تأثيرها على الناس بمختلف الأزمان أن تنتقل خلف الحجب، وتعبر محيطات من مياه زرقاء قاتمة، وبحور لم تكن دوماً صافية، هاجرت مع الإنسان في رحيله السرمدي نحو متاهات الرمل والملح ووحل المستنقعات، عبر السفر والترحال والتجوال بحراً وبراً، وعبر جبال من الصعب والوعر بلوغها، وسير في الوديان والسهول صعب عبورها، تدثرت تلك الحكايات والمرويات القابعة في صدور الناس وذاكرتهم في عباءات المعتقدات، وطروس الأديان، وسجع الكهان، ورقيم الطين، وسير الحضارات، ربما نقلها العابرون، ربما سبقت القبائل المرتحلة بحثاً عن الماء والعشب والكلأ، ربما هي من تعاليم الإنسان الأول، وأول الأشياء الناجية معه بعد طوفان نوح، وربما لأن الحكايات تبدأ حين تنتهي، ولا تنتهي إن بدأت!
في هذا الكتاب الجميل والممتع للدكتور عبيد بن سالم الكعبي الذي وثق فيه الحكاية الشفاهية والحزورة المسائية، والفزورة الشعبية في الإمارات، ومن لسان الشهود على الحكاية، والراوين لها، والمحدثين بها، رجال ونساء عاصروا الحكاية وزمنها، سمعوا وتسامعوا بها، وتناقلوها ونقلوها، وربما سلموها لجيل يليهم، لتبقى الحكاية هي الحكاية، ذاكرة الناس التي يستيقظون بها، وينامون عليها، ويحلمون من خلالها، ويغامرون من أجلها!

جريدة الاتحاد