انتصر لشغفك أولا – بقلم لطفية الدليمي

لطفية الدليمي
إنّ لقمة هانئة صغيرة نتناولها ونحن مسكونون بدفع شغفنا الطبيعي لهي أكثر شرفاً من مال نكتنزه من غير شغف بالحياة.
كنت أتصفح بعض المواقع الحوارية التفاعلية على الشبكة الإلكترونية، فجذب انتباهي طالب ثانوية أميركي عرض دراسته الذاتية الرصينة في حقول معرفية علمية متعددة وهي دراسة تتمحور حول موضوعات الفيزياء والرياضيات والكمبيوتر والذكاء الاصطناعي وحتى اللغات.

وقد أفاض الطالب إفاضة كبيرة في ذكر تفاصيل عن المصادر المنهجية التي درسها بإتقان لافت للنظر (وهي مصادر صعبة على طالب ثانوية كما نعرف)، ثمّ طلب في نهاية مداخلته المستفيضة والممتعة آراء قرّاء الموقع حول كيفية ترتيب دراسته الجامعية: هل يدرس الفيزياء والرياضيات كدرسين رئيسيين والكمبيوتر كدرس ثانوي؟ ثم عدّدَ بعدها قائمة بالخيارات التي يفكّر في دراستها.

أمتعتني قراءتي للتعليقات متعة كبيرة، فهي تكشف لنا بوضوح ما يدور في أذهان غيرنا من سكّان هذا العالم. لفت نظري تعليق ينصح الطالب بالتفكير في دراسة الهندسة (هندسة الكمبيوتر أو الهندسة الكهربائية) لأنّ مجالات العمل التي تتيحها الهندسة أوسع من مجالات العمل التي تتيحها الفيزياء أو الرياضيات، وكذلك فإنّ مداخيل المهندسين تزيد بما لا يقلّ عن 40 إلى 50 بالمئة عن مداخيل الفيزيائيين والرياضياتيين (هذا في أميركا بالطبع). فكان جواب الطالب حاسماً صارماً لا يقبل الالتفاف أو التراجع: نعم هذا صحيح، وأنا أعرف هذه الحقائق، لكن هل تستحقّ الدولارات الإضافية التي سأحصل عليها بيع شغفي والتضحية به؟

دهشت وأنا أقرأ ما كتبه هذا الطالب النابه الذي يعرف ما يريد ولا يضحي بشغفه تحت إغراءات المادة، وذهلت بكم ّمقروءاته ومعلوماته، ورأيت كيف استطاع تهشيم قناعاتنا المسبقة عن لهاث الناس وراء المال في قلعة الرأسمالية العتيدة: أميركا.

صحيح أنّ المال هو معبود أكثرية الأميركان مثل بقية سكان كوكبنا، لكنّ عبدة المال عندنا ليسوا بأقلّ عدد من هؤلاء، وثمّة البعض -رغم أنهم أقلية- ممّن يضعون أهدافاً أخرى أمامهم غير المال، وبخاصة عندما يتعلّق الأمر بشغفهم العظيم المحدد في هذه الحياة.

أحسب أنه من النادر أن نجد في بيئتنا من يماثل ذلك الطالب في سعة قراءاته ونوعيتها وغزارتها، وقبل ذاك في تصميمه الراسخ على دراسة ما يحبّ وتجاوز كلّ الضغوط التي تعترضه، ولعلّ مأساة كلّ عام لا تزال تتكرّر لدى طلبتنا في محيط الأسر العربية: يدرس الطالب في منهاج الثانوية العامة بعض الدروس المحدّدة بطريقة تقليدية للغاية، ثمّ يسعى للحصول على معدّل يؤهله ولوج كليات النخبة التي يحلم بها الآباء قبل الأبناء، وأعني بها كليات التخصّصات الطبية والصيدلانية في المقام الأول ثم التخصصات الهندسية في المقام الثاني، وأظننا نعلم جميعا مقدار التكالب الذي يجري على هذه التخصصات بسبب المال الذي ستغدقه على أصحابها.

لست أروّج هنا لتبشيع الثراء أو القول إن كسب المال يشكل سبّة، لكنّي أتساءل: هل خلَقَنا الله كلنا (أو شكّلتنا الطبيعة) لنكون أطباء ومهندسين حسب؟ أليس هذا دليلا واضحا على بهتان خياراتنا وعدم اتفاقها مع منحنى التوزيع الطبيعي؟

إنّ ما يحصل في العادة هو أننا نقتل شغفنا الطبيعي مدفوعين -جهلاً أو بالإكراه- للاعتقاد بأنّ المال أبقى شأناً وأرفع مقاماً من ذلك الشغف الذي يسكننا، ثمّ سنكتشف خطأ ذلك الاعتقاد بعد مرور السنوات.

إنّ لقمة هانئة صغيرة نتناولها ونحن مسكونون بدفع شغفنا الطبيعي لهي أكثر شرفاً من مال نكتنزه من غير شغف بالحياة.

صحيفة العرب