الساكسون وأدب السكوت – بقلم خالد القشطيني

15520.8

قلما يستهجن الإنجليز شيئاً كما يستهجنون المجادلات، ويعتبرونها نوعاً من قلة الأدب وسوء التربية. من النصائح الشائعة عندهم ألا تسأل إنساناً عن دينه ولا عن أفكاره السياسية. ومن أسوء الأسئلة أن تسأل شخصاً عمن أعطى صوته في الانتخابات العامة. ولهذا شاع عن الإنجليز أنهم لا يتكلمون عن شيء غير الطقس وأحوال الجو. فهذا موضوع أمين لا يترك مجالاً للنقاش. لاحظ برناردشو ذلك فابتدع منه مشهداً من أظرف المشاهد المضحكة، عندما جعل بطلة مسرحية «بيجماليون»، إلايزة، تناقش الآخرين في موضوع الجو والطقس.
كثيراً ما كنت أتضايق لدى وصولي إلى بريطانيا، عندما كنت أواجه مراراً وتكراراً هذا الكلام منهم. حالما كنت أصل إلى الكلية يواجهني زملائي فيها بهذا الكلام: «طقس جيد هذا اليوم، أليس كذلك؟» وعليك أن توافق على ذلك، وتحذر من المناقشة فيه. سيتهمونك بأنك أجنبي قليل الأدب.
نقلوا معهم بالطبع هذا المزاج إلى المستعمرات التي استقروا فيها، ولا سيما أستراليا ونيوزيلندا. هناك تفرق المهاجرون، وكان أكثرهم ممن نفتهم الحكومة البريطانية لاقترافهم جرائم معينة. أصبح من المهم جداً أدبياً ألا تسأل أحداً عن هويته أو ماضيه أو عمله، أو عما جاء به إلى ذلك البلد. فقد تكون جريمة حكموه عليها بالنفي. وإذا كانت امرأة فقد تكون قد نفيت عقوبة لها على امتهانها البغاء. ساد عندهم أدب السكوت، مما يختلف كلياً عن تراثنا البدوي والضيافي الذي أصبح فيه السؤال والجواب وتطارح الحديث من الأركان الأساسية للضيافة.
وفي إطار أدب السكوت، تعددت الروايات والحكايات والطرائف بين الأستراليين بصورة خاصة. روى أحد أدبائهم الحكاية التالية في معرض ذكرياته عن الحياة في أستراليا. قال:
كان هناك اثنان من الأفاقين نشأت بينهما صداقة وطيدة عبر أسفارهما في البلاد. خرجا يوماً في سفرة أخرى نحو الغرب، حيث تكثر زراعة القمح. وبينما كانا يسيران في طريقهما مشياً على الأقدام امتدت حقول القمح على كلا الجانبين من الطريق.
أخذ هاري نفساً عميقاً من سيجارته، ثم أبعدها عن شفتيه، والتفت إلى صاحبه ليشير به إلى القمح الممتد أمامه، وقال: هذه حنطة من نوع جيد. ثم واصل سيره.
بعد خمس ساعات من المشي وصلا مخيماً، فنزلا فيه، واضطجعا للراحة بعد هنيهة حول نار المخيم، والتف كل منهما ببطانيتهما المشتركة. أخرج بيل غليونه وملأه بالتبغ وأشعله. وبعد نفس عميق طويل من الغليون التفت إلى صاحبه، وقال له: «أنا أعتقد أن ذلك الحقل الذي مررنا به كان حقل شعير وليس حقل حنطة». وبعد أن انتهيا من التدخين وضعا رأسيهما على طرف البطانية واستغرقا في نوم عميق. وعند الصباح استفاق بيل من نومه، ونظر حوله فلم يجد لصاحبه هاري أي إثر! استغرب كثيراً، ولكنه لاحظ في المكان الذي كان هاري يرقد فيه تحت البطانية ورقة تحت صخرة صغيرة، فأزاح الصخرة، وأخرج الورقة، فوجد مكتوباً عليها هذه الكلمات:
«أنا لا أحب كل هذه المجادلات والمناقشات. شوف لك صديقاً آخر تصاحبه»!

جريدة الشرق الأوسط