الخريف – بقلم إسلام أبو شكير

بو شكير اسلام

حاولتُ جاهداً أن أستجمع قواي وأركّز فيما يقوله..
كان يمسك بسمّاعة الهاتف بيدٍ، بينما اليد الأخرى تعبث بذراعي الممدّدة أمامه على المكتب. يقلّبها. يديرها من جهةٍ إلى أخرى. ينقر فوقها. يضغط بإصبعه عليها ضغطاتٍ متتالية، كما لو أنّها سمكة يريد أن يتأكّد من كونها طازجة. يمسك بسبّابته وإبهامه بجلدها من ظاهر الكفّ. ثمّ يشدّه إلى الأعلى ويتركه. تدلّ ابتسامته الخفيفة على أنّه راضٍ عن درجة مرونة الجلد. وأحياناً يقرّب رأسه منها متأمّلاً تفصيلاً يبدو أنّه أثار انتباهه. أراه يضيّق عينيه، ويمعن النظر، لكنّه سرعان ما يرخيهما، مبعداً رأسه مرّةً أخرى عندما يكتشف أنّ الأمر ليس مهمّاً. يستوقفه خصوصاً الخاتم في البنصر. يديره مرّاتٍ عديدة. أتساءل على نحوٍ عابرٍ عمّا إذا كان يريد أن يعرف ممّ هو مصنوع. ثمّ يمرّر طرف إصبعه على حوافّ الأظافر. وخلال ذلك كان يلقي بين الحين والآخر نظراتٍ سريعةً نحوي، يعود بعدها، إلى الذراع، ومنها إلى السجلّ الكبير المفتوح أمامه، ومنه إلى الفراغ.. حيث لا شيء..
حاولتُ أن أركّز.. لكنّني لم أتمكّن من التقاط جميع الكلمات التي كانت تخرج من فمه، لاسيّما أنّ صوته كان خافتاً جدّاً كما لو أنّه يعاني النعاس. وأظنّ أنّ ملاحظتي بخصوص النعاس كانت في محلّها لأنّني رأيتُه يتثاءب مرّتين على الأقلّ.
كلّ ذلك.. وأضيف إليه حالتي العصبيّة والنفسيّة التي كانت سيّئةً للغاية. وأتحدّث عن الحالة العصبيّة والنفسيّة لأنّني لم أكن أتألّم جسديّاً في الواقع، وهذا ما أثار استغرابي. لو قيل لي قبل ساعتين تقريباً إنّ ذراعك ستسقط منك لمتُّ رعباً لمجرّد تخيّلي حجم الألم الذي سأعانيه.. أن تسقط ذراعي فجأةً. أسمع صوت ارتطامها بالأرض. الدم وهو ينفر. ذراعي مستلقيةٌ بين قدميّ. تتلوّى كحيوان ذبيح. ثمّ تخمد حركتها شيئاً فشيئاً.. أيّ مشهد مرعب!
الآن، بعد أن حدث هذا فعلاً، تبدو لي الأمور أبسط بكثير. أعني الناحية الجسديّة تحديداً. لا شيء سوى وخزٍ خفيفٍ محتمل. أمّا ما عدا ذلك فمرتبطٌ بتلك الفوضى من المشاعر التي تعصف بي. الخوف. القلق. الدهشة. الحيرة. اليأس. والقليل القليل من الأمل..
فوضى لم تسمح لي بالتقاط كلّ ما كان الشرطيّ يتفوّه به. لكنّني مع ذلك فهمتُ شيئاً. الشيء المهمّ كما أقدّر. كان يخبر رئيسه بالحادثة. ثمّ سأله عمّا يجب فعله..
– في الأربعين من عمره.. متوسّط القامة.. لا.. لا ينزف.. نعم.. جاء بمفرده.. البتر من نهاية العضد.. نعم.. الكتف.. الذراع كاملة.. نعم.. لا.. يقول إنّها سقطتْ من تلقاءِ نفسها..
وأشياء من هذا القبيل..
وضع الشرطيّ السمّاعة. ألقى ذراعي من يديه، ثمّ وقف مصوّباً نظراته نحوي..
– تُراجِعُنا غداً صباحاً.. وسنرى ماذا يمكن أن نفعل..
– وذراعي؟
– تأخذها معك..
– ألا تحيلني إلى المشفى؟
– لا أستطيع.. يجب أن يرى المقدّم ذراعك في حالتها الراهنة أوّلاً.. هنالك أشياء لابدّ أن يعاينها بنفسه..
ثمّ أضاف منبّهاً:
– إيّاك أن تتصرّف في شيء..
حمل ذراعي من جهة المعصم مدلّياً إيّاها إلى الأسفل. كان يحاول أن تظلّ بعيدةً عن ثيابه كي لا يلوّثها الدمُ المتقاطر منها. خرج من خلف مكتبه، وهو يتثاءب للمرّة الثالثة..
– الأفضلُ أن تضعها في الثلّاجة..
تناولتُها منه..
– أعتذر منك.. الدم هنا على الأرض، وعلى مكتبك..
– لا تشغلْ نفسك.. المهمّ أن تكون بخير..
ومدّ يده نحوي ليصافحني. ارتبكتُ قليلاً لأنّني لم أعرف كيف أتصرّف. يدٌ مقطوعة. وأخرى مشغولةٌ بحملها. كيف أصافحه؟ ويبدو أنّه انتبه إلى ذلك فسحب يده، وقال وهو يهزّ رأسه مبتسماً:
– نراك غداً..

تناولتْ زوجتي ذراعي منّي. سألتْني عمّا إذا كان يجب أن تنظّفها أوّلاً قبل أن تضعها في الثلّاجة، فأخبرتُها أنّني لا أرغب أن أسمع في مخفر الشرطة غداً كلاماً لا ضرورة له. يريد المقدّم أن يعاين الحالة كما هي.
لفّتْها بورق القصدير، ووضعتْها في الرفّ العلويّ. أحضرتْ لي كأساً من الشاي. كنتُ أفضّل القهوة في الحقيقة، لكنّني لم أعترض. مزاجي لا يساعدني على الأخذ والردّ. أشعلتُ سيجارة، وأخذتُ أفكّر فيما يمكن أن يفعله المقدّم غداً. ما أخشاه أن يطول وقت التحقيق. الأسئلة السخيفة التي يسألونها عادةً.. اسمك، وسنّك، وعنوانك، وعملك، وحالتك الاجتماعيّة، وهل لك أعداء، ومتى حدث ذلك، وهل هنالك شهودٌ على الواقعة، وغيرها.. وعندما ينتهون سيكون الأوان قد فات، وفسدتْ ذراعي. يجب أن أخبرهم أنّني بحاجةٍ إليها. لا أستطيع الاستغناء عنها. هنالك أعمالٌ كثيرةٌ لا يمكن القيام بها بذراعٍ واحدة. ثمّ إنّه حادثٌ عارض. ما من جريمةٍ هناك للتحقيق والسؤال..
كنتُ مشوّشاً جدّاً، ومع ذلك فقد غفوت..

أيقظني بكاء زوجتي. لم يكن بكاءً إذا أردنا الدقّة بقدر ما هي محاولاتٌ يائسة لقول شيءٍ ما.. أحرفٌ متداخلة. أحرفٌ ناقصة. أحرفٌ متقطّعة.. وكلّها على خلفيّةٍ من الشهقات الحارّة المخنوقة. نحيبٌ متدفّق لا يسمح لكلمةٍ واحدة أن تكتمل..
فتحتُ عينيّ فزعاً.. فرأيتُها تحملني.. لا.. لا.. ليس هكذا بالضبط.. كانت تحمل رأسي في الحقيقة..
وفجأةً رأيتُني أتدحرجُ على الأرض. كانت سقطةً مؤلمة. يبدو أنّ حركة جفنيّ وهما ينفتحان قد أرعبتها. لم تتوقّع ذلك. رأسٌ بين يديها يصوّب نظراته إليها. فألقتْني بعيداً..
اختفتْ عن مجال رؤيتي. كنتُ ألفّ على نفسي، وعندما توقّفتُ عن الدوران كان وجهي إلى الحائط، فيما هي في الخلف. وبصعوبةٍ بالغة تمكّنتُ من الالتفاف على نفسي قليلاً، بحيث أصبح بوسعي أن أراها، وإن كانت زاوية الرؤية ضيّقةً جدّاً..
– ما الذي حدث؟
سألتُها. حاولتْ أن تقول شيئاً، لكنّ النحيب ما زال يتدفّق قاطعاً الطريق على الكلمات قبل أن تطلّ برأسها من بين شفتيها. كانت أشلاءَ كلماتٍ لا تحمل أيّ معنى..
جسدي اللعين الذي لا أعرف أين هو. لو كان معي لاقتربتُ منها. قد أحيط خصرها بذراعي الوحيدة، وأضمّها إليّ. قد أعطيها مجالاً لتسند رأسها على كتفي. أو على الأقلّ كنتُ سأحضر لها كأس ماء.. هنالك أشياء كثيرة يمكن أن يفعلها الرجل لامرأةٍ خائفة، شريطة أن يكون جسداً كاملاً، أو ألّا تنقصه في أسوأ الحالات سوى ذراعٍ مثلاً..
لكنّني الآن مجرّد رأسٍ تافهٍ.. عاجزٍ.. وحيدٍ.. بجذورٍ مقتلَعةٍ.. تنزف دماً..
ومع ذلك كرّرتُ المحاولة. سألتُها:
– أين جسدي؟
رأيتُها من زاويتي الضيّقةِ الصعبةِ تبتلعُ ريقها. حركة لا إراديّة على الأغلب، لكنّها نجحت في إيقاف نحيبها للحظة. ثمّ سحبتْ نفساً طويلاً، وأطلقتْه..
– لا أدري..
أخيراً. لقد تكلّمتْ. فرصةٌ عليّ ألّا أضيّعها. لا ينبغي أن أدعها تستسلم لبكائها المجنون ثانيةً. ولذلك أردفتُ سؤالي الأوّل بآخر، ودون أن أعطيها مجالاً للبكاء من جديد:
– ألم أكنْ في الفراش أمس؟
– بلى.. وعندما استيقظتُ قبل قليل لم أجدكَ.. وجدتُ رأسكَ فقط..
– فتّشتِ البيت جيّداً؟
– نعم..
– والذراع؟
– في مكانها.. في الثلّاجة..

كنّا على مكتب المقدّم. أعني رأسي وذراعي. كان المقدّم يمسك بسمّاعة الهاتف بيد، بينما اليد الأخرى تعبث بشعري تارةً، وتارةً أخرى بأذنيّ ينقر عليهما بطرف إصبعه مستمتعاً بارتدادهما السريع مع كلّ نقرة كما لو أنّهما من المطّاط، أو بشفتيّ يداعبهما مستغرباً من طراوتهما كما يبدو. كان يكلّم أحدهم:
– نعم.. رأس وذراع.. عندما وصلَنا الرأس كان يتكلّم.. لا.. هو الآن يحرّك عينيه فقط.. نعم.. نعم.. لا.. قال إنّه سقط من تلقاء نفسه.. نعم.. رأس.. وذراع..

جريدة الاتحاد