اليتيمان، الشاعر والشعر – بقلم محمد ناصر المولهي

ناصر-المويلهي2
مفارقة الخبز والقصيدة، ومفارقة الشعر الحداثي اليتيم والتقليدي الذي تتبناه الجوائز، تمثلان اختبار الشعر الحتمي والقاسي، اختبار ليس على الشاعر النجاح فيه، بل عليه اجتيازه.

قدر الشاعر العربي هو اليتم، فيما شعره يخنقه الإنكار. قد يبدو هذا من المغالاة في النظر بسوداوية إلى واقع الشعر العربي اليوم، رغم بعض مناطقه المضيئة.

لكن فلنتساءل عما إذا كان هناك نقاد نزهاء، يقومون بدور الرسل بين الشعر الجديد والقراء؟ هل يقدر “نقاد الشنطة” بأدواتهم الصدئة على ذلك؟ أبدا لا. هل يقدر الناشرون التجاريون والأكاديميون البائسون على ذلك؟ طبعا لا. وحتى ذات الشاعر، الناقد الأول لنصه، أحكمت عليها قبضة اليومي الرتيب وضباب الواقع الذي لم يرس على أمل أبيض أو إحباط أسود، فبقي في فضاء رمادي.

إنه زمن المفارقات العجيبة، ففيما تنادي الشعوب العربية بالحرية رافضة الخبز بذلة، ويظهر في ركاب ذلك أدب جديد، محاولا الخروج من شرنقة الماضي المكذوب، إذا به ينتكس بدوره وكأننا به جنين ولد قبل اكتمال نموه، كما انتكس المطالبون بالحرية وعادوا للمطالبة بالخبز، حتى ولو كان معجونا بعظامهم ودمائهم.

في هذه المفارقات يتداخل واقع الشعر العربي، بين محاولات التجدد والماضويين، بين حقائب النقاد القدامى، وغضب الأجنة الناقصة، بين الخبز والحرية، بين التضحية والعناء والكسل والاستكانة. بين فكوك كثيرة، قديمة وجديدة، نسمع تفتت أحشاء الشعر، وهو يعد بالانبعاث.

إذن حتى في واقع اليتم والإنكار، وفي واقع الحريات التي تطول وتقصر كالحبل المشدود، تبقى كتابة الشعر تجربة فردية، قد تحتذي بها تجارب كتابية في أجناس أخرى.

أما عن مفارقة الخبز والقصيدة، ومفارقة الشعر الحداثي اليتيم والتقليدي الذي تتبناه الجوائز، فهو اختبار الشعر الحتمي والقاسي، اختبار ليس على الشاعر النجاح فيه، بل عليه اجتيازه.

هناك منظومة كاملة من الزيف، تقبّح الجميل وتجمل القبيح، تقدم هذا وتؤخر تلك، تحاصر أولئك وتفتح مجالا لهؤلاء، منظومة يقودها كتاب وإعلاميون وناشرون وجامعيون وشلل وحتى قراء تابعون، لا هم لها إلا تسيير الأدب العربي على مسار تراه دون سواه، أما من شذ عنها فيمكن تدجينه، وإن لم يقبل يمكن تشويهه، إن لم يمت يمكن محاصرته، وإن أفلت يمكن مهادنته وتغيير أساليب الاستقطاب حتى تتمكن منه، لا أحد ينجو من هذه المنظومات السياسية أكثر من كونها ثقافية، المنتمية إلى كهف السلطة لا إلا فضاء الحرية التي من دونها لا إبداع ولا مبدعين. لكن يبقى هناك الأمل في أن تفي عنقاء الشعر بوعد انبعاث جديد مع أجناس الكتابة الأخرى، ولو كان ذلك من خلال آلاف الذوات التي تحاول وتنتهي إلى الفشل.

تبقى القناعة راسخة أن على الجميع أن يكتبوا، لا يهم مدى جودة ما يكتبون، المهم أن يغرقوا كل ما حولهم بالكتابة الصادرة عن تجربة حقيقية، ومن ثم فلتكن الكتابة طويلة أو قصيرة، عارفة أو جاهلة، قبيحة أو متحمسة، أو باهتة بشكل خرقة أو رائحة حنين، إلخ… سيشتكي كثير من الكتاب الرسميين معتبرين فعل الكتابة المغامرة إغراقا وإفراغا للكتابة من معناها. فليكن ذلك، وليغرق مع الغارقين هؤلاء الذين أفسدوا فعل الكتابة، وجعلوا منه مجرد بضاعة، لنتخفف من هؤلاء المصلحيين وعمال الحبر المؤجر.

علينا أن نكتب كل يوم وفي كل لحظة، علينا أن نكتب حتى نطهر الكتابة من المتاجرين بها الذين يكتبون بالخبز ومن التقنيين الباردين المقيمين في الرماد.

صحيفة العرب