في بيتنا نصّابون – بقلم سوسن الأبطح

31520181n

ما بين الجزء الأول والثاني من مسلسل «الهيبة» لم يزدد جبل شيخ الجبل (تيم حسن) سوى جلافة وفظاظة وقلة أدب. في المقابل صار زعيم المهربين أكثر جاذبية في عيون النساء، خاصة زوجته سميا التي لم توفر وسيلة لاستمالته إلا واستخدمتها بعد أن انهال عليها ضرباً مبرحاً، وكنت تظن وأنت تراه يجلدها، أنها لن تشفي غليلها منه وتثأر لكرامتها المهدورة إلا بسحب روحه من جسده. وكانت قبل الضرب تشيح بوجهها عنه ولا تريد أن تسمع باسمه. وكي تتأكد أن النساء كلما زدتهن عنفاً وقمعاً بادلنك حباً، فإن أخت جبل منى يبدو أن ولعها بزوجها وتمسكها به يتعاظمان بعد أن ضربها وبرّحها هو الآخر. هكذا هنَّ النساء المحترمات في «الهيبة». من جزئه الأول عليا (نادين نسيب نجيم) ما كانت لتقع في عشق جبل لولا المفارقة في شخصيته بين الشهامة المفرطة، والقسوة الـ«جيمس بوندية». يبقى أن الأمر تطور على طريقة «باب الحارة» في الموسم الحالي، ليعتمد «خناشير» عشيرة شيخ الجبل شتم النساء وتحقيرهن – من أجل مصلحتهن طبعاً – وسيلة مثالية لحمايتهن من أجواء التشبيح والتهريب والإجرام.
والمرأة في مسلسلات رمضان على الشاشات اللبنانية، إما ميسورة إنما مهيضة الجناح، أو خائنة حتى العظم أو مدمنة كما في (تانغو) أو متمردة هاربة كما بطلة «ومشيت» وقد تجدهن متهتكات وبالجملة في البارات كما في «موت أميرة». وتشذّ بطلتا مسلسل «طريق» (نادين نسيب نجيم) و«موت أميرة» (شيراز) في نموذج المرأة الطموح المستقيمة رغم ضيق ذات اليد، التي لا تتسلق الرجال لطمع ولا تنتهز الفرص لجشع. وبما أن قيمة المال العليا، وسرعة الحصول عليه هي واحدة من الثيمات الرئيسية التلفزيونية للشهر الفضيل التي لا تنازعها ثيمة أو ينافسها موضوع، ولا نعرف إن كان الشرهون والنصّابون وهم يغزون البيوت والعقول سيندمون، أو يعاقبون على الأقل في النهاية، خاصة أن عدداً كبيراً منهم يتاجرون بالممنوعات ويحترفون الخديعة، كل على طريقته، ولا يتورعون عن فعل أي من الموبقات للوصول إلى الهدف. وبعد أن أقحم المتفرج في دوامة حيوات لأبطال يندر وجود البشر الأسوياء بينهم، صار البحث عن الطيبة واجباً والعثور عليها ضرورياً، كي لا ينتهي المتفرج إلى حصيلة زبدتها الضياع والتشتت، في مجتمع هو في الأصل فاقد لأي بوصلة، ويبحث عن قشة نجاة. راجعوا حساباتكم قليلاً، ستجدوا في غالبية ما تشاهدون مجموعة من اللاهثين وراء المال، يشكلون العمود الفقري للقصة، وجماعة أقل من المغفلين الذين يستحقون الشفقة.
لم يكن الفن الجميل يوماً تربوياً أو إرشاديا، لكنه يفترض أن يساعد بأخياره والشريرين فيه، على فهم النفس، والتماهي مع المتشابه، والنفور من الشاذ لا تزيينه وتلطيفه وإغراق عموم الناس فيه حتى يصير عادة ويألفه الطبع. والمعضلة الرئيسية في ما يقدم لنا، هو التواطؤ المتكرر على ترسيخ نماذج لشخصيات بشعة في سلوكها وطواياها، غالباً لمّاعة في مظهرها، كانت تمر عابرة، أو تعالج بحساسية أكبر حين يراد لها أن تحتل الصدارة. جبل شيخ الجبل بحركاته وألفاظه النابية التي لا يكفّ عن التفوه بها، وحذاؤه الذي يحلو له الدوس به على السرير كنوع من استعراض القوة، والسلاح حين يتلاعب به، وفمه كما يلويه وهو يتكلم، يذكّر برجال «الكاوبوي» في الأفلام الأميركية، أكثر منه «قبضايات» بلادنا الذين يحتفظون بشيء من الطيبة والوداعة مهما كانت مسالكهم وعرة. وفرح الراقصة الخائنة وعشيقة عامر المهرب الغارق حتى أذنيه بالأموال ودهاليز العصابات في «تانغو»، لم يخرجا رغم التعريب من مناخات القصة الأرجنتينية التي اقتبس منها المسلسل. العمل كله معجون بظلام دامس، لا ثغرة فيه لبصيص ضوء ولو خافت. كل هذا الشر في 30 أمسية يبعث على اليأس والبؤس معاً. لا نريد أن نصدق أنه لم يبق لنا شخصيات نعود إليها، وكان مسلسل «أم كلثوم» بديعاً وكذلك «الملك فاروق»، و«نزار قباني» رغم بعض ضعفه أفضل مما نرى. أليس في معاشنا من الأزمات غير الخيانة، والتهريب، وسرقة الأموال، والكذب والنفاق. كان ممتعاً مسلسل هند صبري «حلاوة الدنيا» العام الماضي، عن الشابة المتزوجة حديثاً وتصاب بسرطان الثدي، وتوضع أمام تحدي الاختيار بين جنينها الذي قد لا يعوض أبداً ونفسها الهالكة حيرة. بيننا قصص كفاح كثيرة جداً لأمهات ناضلن من أجل عائلاتهن، في مجتمعات سلبتها الحرب كل فرح أو أمل. نعرف رجالاً ضحوا وأبوا أن يخضعوا للرذيلة كي يبقوا كباراً في عيون أولادهم. هذه الحكايات المجلوبة أو المعجبة حد التقليد بما عند الغير، لم تكن أمينة لواقعها وإن تابعها الجمهور العريض، وكسبت وجنت الأرباح، ووصلت إلى ما أراده منتجوها على غرار ما يفعله أبطالها.
فإذا كنا على خطأ وأن المسلسلات المعروضة تشبهنا حقاً، ولا نعرف ونعي، فتلك مصيبة، وإن كانت رسمت على هذا النحو الناضح بالشرّ لتسليتنا فقط، بعد أن اختفت براءة الفوازير، وبريق البرامج الحوارية، ومتعة الألعاب الطريفة، فالكارثة أدهى وأعظم.