قصيدة النثر ليست شعرا – بقلم حسونة المصباحي

حسونة المصباحي
النافون عن قصيدة النثر شعريتها، هم في الحقيقة ينفون حقيقة موضوعية وهو أنه لا عصر يشبه عصرا سبقه أم لاحقا له، وأن الحياة في تغيّر دائم، وأنه لا شيء يبقى ولا شيء يدوم، بما في ذلك أنواع الكتابة وأشكالها.

في لقاء معها بنادي الطاهر الحداد بالعاصمة، قالت شاعرة تونسية تنتمي إلى الجيل القديم، إن قصيدة النثر ليست شعرا. وهي ليست الوحيدة التي تفوّهت بمثل هذا الكلام. فقد سبقها آخرون. وربما لا يزال هناك من يشاطرها الرأي مشرقا ومغربا. فالثقافة العربية، خصوصا بعد تنامي الأصولية الدينية، تواجه راهنا حركة ردة يسعى أصحابها من خلالها إلى الحطّ من شأن الحداثة في جميع المستويات، وفي مجال الكتابة والتفكير تحديدا.

وأظن أن هذه السيدة، وجميع الذين ينزعون عن قصيدة النثر شعريتها، ويقصون من مملكة الشعر أصحابها، والمدافعين عنها، يرتكبون عدة أخطاء سأحاول الإشارة إلى البعض منها..

أولى هذه الأخطاء هو أن هؤلاء العموديين، يعتقدون أن الالتزام بالأوزان الخليلية هو الضمان الوحيد لكي يكون الشاعر شاعرا بالمعنى الحقيقي للكلمة.

ولكن التاريخ الأدبي في جميع العصور والحقب أثبت، ويثبت بالأدلة القاطعة خطأ مثل هذا الاعتقاد. فقد عاش شعراء كثيرون في عصر المتنبي، وأبي العلاء المعري، وبشار بن برد، وأبي نواس، وأبي تمام، إلاّ أن الذاكرة التاريخية نستهم، ولم تتبق سوى البعض من أخبارهم مبثوثة في بطون الكتب القديمة.

وجميع هذه الأخبار تشير إلى أن هؤلاء كانوا من طبقة لا تسمو إلى طبقة من ظلوا إلى حد هذه الساعة رموزا للشعر في جماليته المدهشة، وفي معانيه الإنسانية العميقة.

وخلال القرن العشرين، ظل البعض من الشعراء متعلقين بالأوزان الخليلية مثل أحمد شوقي، ومحمد مهدي الجواهري، وبدوي الجبل، وأبي القاسم الشابي، وأحمد الصافي النجفي، وغيرهم.. لكن الذاكرة الشعرية احتفظت بهم ليس بسبب وفائهم للموسيقى الشعرية القديمة المتناغمة مع غناء الحدائين وهم مسافرون مع قوافل الإبل في الصحاري، وإنما لأنهم  أتوا بما حرّر الشعر العربي من تلك الرتابة الثقيلة التي طبعت شعر عصور الانحطاط ووسمته بالابتذال والسطحية وبركاكة اللغة وضعف الصور..

الأمر الآخر الذي تتوجب الإشارة إليه هو أن النافين عن قصيدة النثر شعريتها، هم في الحقيقة ينفون حقيقة موضوعية وهو أنه لا عصر يشبه عصرا سبقه أم لاحقا له، وأن الحياة في تغيّر دائم، وأنه لا شيء يبقى ولا شيء يدوم، بما في ذلك أنواع الكتابة وأشكالها. كما أن الأذواق تتغيّر. والسمفونيات الكلاسيكية التي تمثل أفضل ما أنتجته العبقرية الغربية، لم تعد تجلب الجموع الغفيرة التي تجلبها أنواع أخرى من الموسيقى الرائجة اليوم. لذلك يتوجب علينا القبول بالجديد. فإن لم نقبله فإنه يفرض نفسه علينا حتى ولو كنا كارهين ورافضين له. كما ينفي هؤلاء أن هناك شعراء أبدعوا في قصيدة النثر مشرقا ومغربا، وأن قصائدهم تعكس روح العصر، وموسيقاه، وأذواق من يعيشون فيه أكثر من تلك القصائد العمودية الجافة التي لم يعد يهتم بها أحد سوى المتشبثين  بأكفانها ونعوشها..

وعليّ أن أذكّر الشاعرة التونسية بأن الشعر في معناه العميق لا يوجد فقط في القصائد العمودية، بل يوجد أيضا في الرواية وفي السينما، وفي الفنون التشكيلية، وفي المسرح، وفي كل فن متقن، وعاكس لمعنى الحياة والوجود. لذا يتوجب على هذه الشاعرة أن تهتم ببناء قصيدتها عوض أن تتهجّم على قصيدة النثر التي لا أعتقد أنها عارفة بها، وبالمتقنين لها…

صحيفة العرب