وجدان الصائغ: النقد العربي صار سفينةً بلا ربان

الناقدة العراقية ترى أنه ليس على الناقد أن يلبس جلباب النابغة الذبياني.

تحتاج القراءة النقدية للشعر إلى درجة من الإبداع تجعل الناقد قادرًا على الاستفادة من شتى المناهج النقدية دون أن تكون قيدًا يُكبله.

وتحتل الدراسة النقدية للشعر صدارة اهتمامات وجدان الصائغ، حيث أصدرت العديد من الأعمال النقدية في هذا الصدد منها: “القصيدة وفضاء التأويل”، “القصيدة الأنثوية العربية: قراءة في الأنساق”، “العرش والهدهد: مقاربات تأويلية للصورة في الخطاب الشعري اليمني”، و”الصورة البيانية في شعر عمر أبي ريشة”، ومؤخرا صدر لها كتاب بعنوان “اللؤلؤة والبحر.. قراءة في شعر علي عبدالله خليفة”.

تؤكد الصائغ لـ”العرب” أن كتابها الجديد بمثابة رحلة نقدية في منجز شعري امتد لأكثر من خمسين عامًا، وهو منجز لافت بقدرته على رسم الصورة الشعرية المدهشة، وبسلاسة تراكيبه الشعرية؛ فثمة أسباب جعلتها تختار الشاعر علي عبدالله خليفة لتدرس أشعاره، منها الاقتدار الشعري للقصائد، وتجربته المتميزة التي أثرت المشهد الإبداعي البحريني خصوصا، والمشهد الإبداعي العربي عموما.

لا ينقطع الحديث عن أزمة النقد العربي في تعامله مع النصوص الإبداعية والإشكاليات التي ترافق العملية النقديّة برمتها. وتصير الإشكاليات أكثر إلحاحًا حينما يكون النص الإبداعي شعرًا، فثمة تراجع في الاهتمام بالشعر على المستويين الإبداعي والنقدي. الناقدة العراقية وجدان الصائغ من النقاد القلائل المهتمين بالشعر. وكان لـ”العرب” معها هذا الحوار حول واقع النقد.

المنهج الملائم

توضح الناقدة أن الشاعر امتاز بالجرأة في ارتياد آفاق شعرية غير مسبوقة، ولمست هذه الجرأة في التجريب والمغامرة الشعرية مع كل مجموعة شعرية جديدة يصدرها، إذ يمتاز بقفزات في المتخيل الشعري منذ مجموعته الأولى “إضاءة لذاكرة الوطن” عام 1973، وصولا إلى مجموعته الشعرية الأحدث “تهويدة لنجم البحر” عام 2019، كما أنه يمتاز بحرفية الشاعر في اللعب بموسيقى القصيدة فهو ينتقل بسلاسة من القصيدة العمودية إلى الحرة.

تؤمن الصائغ بأن النص يفرض المنهج الملائم لقراءته ونقده، تقول “في كل دراساتي أتبنى النص أولا، وهو الذي يدلني على المنهج المناسب للتعامل معه، أي أنني لا أحضر المناهج بوصفها مشارط العملية النقدية، ثم بعد ذلك أقوم بتشريح النص، وهو ما أراه متبعًا في معظم الدراسات الأكاديمية وبعض الدراسات التي تتجنى على النص أكثر مما تشير إلى مسكوتاته الترميزية”.

وتضيف “يمكن القول إنني استخدمت بشكل طاغ المنهج التاريخي بمعية بقية المناهج، حين وجدت القصائد تؤرخ للبحرين وناسها، وتحديدا في مجموعته الشعرية ‘إضاءة لذاكرة الوطن’، ومثل ذلك ينسحب على توظيفي المنهج النفسي حين عكست قصائد الشاعر إحساسات الإنسان المعاصر المحاصر بالغربة والألم، ويرقب زحف المدنية على الطبيعة في مجموعته ‘في وداع السيدة الخضراء’ “.

ونظرًا إلى أن الصائغ لا تميل إلى التطبيق الآلي للمناهج النقدية على النصوص الإبداعية، فهي أكثر ميلًا لأن يحضر النقد بصفته إبداعا جديدا، وعن ذلك تقول “أؤمن بأن الناقد هو مبدع آخر، لأن المبدع يتسلح برؤاه ومواقفه الفلسفية إزاء الكون والحياة، في حين أن الناقد يتسلح برؤاه النقدية إزاء النص، علاوة على أن عتبة المبدع هي الحياة وعتبة الناقد هي النص الإبداعي”.

المبدع يتسلح برؤاه ومواقفه الفلسفية إزاء الكون والحياة، في حين أن الناقد يتسلح برؤاه النقدية إزاء النص

وتتابع في حوارها مع “العرب” “أزعم أن العملية النقدية لا تختلف عن العملية الإبداعية في مراحلها، فالمبدع يتوقف عند خبايا الحياة ليعري زيفها فيدهشنا منذ كمون الفكرة وحتى بزوغها بكلمات يسطرها، فتتقد في الأذهان موسيقى ووهجًا، ثم يبحث لوهجه عن عنونة تشكل العتبة الأهم لاكتمال فردوس النص الإبداعي”.

وتلفت إلى أنه في ذلك، شأنه شأن الناقد الذي يقف عند النص الإبداعي ليستنطق مسكوتاته الإبداعية، يخلب نظره وهج النص الإبداعي، ليبقى باحثًا في خباياه متكئًا على مخزونه العلمي وعلى مخزونه الحياتي أيضا.

تسير العملية النقدية لتلامس العتبات التي وقف عليها الشاعر ليفهم طبيعة النص، اتجاهاته ورؤاه، يكتب ويمسح ويعيد قراءة النص الإبداعي ثم يعيد قراءة ما خط من رؤى نقدية عنه، لتبدأ بعدها رحلة البحث عن عنوان كعتبة نصية دلالية تشي بمضمون الرحلة، وهو ما دأبت عليه الصائغ في كل كتبها منذ الإصدار الأول “جذوة الإبداع وموقد البوح”عام 2001، ومرورا بـ”النورسة والبحر” عام 2002، و”قيثارة سومر” عام 2005، وغيرها.

عن اختيارها “اللؤلؤة والبحر” كعنوان لكتابها الجديد، تقول الناقدة العراقية، إن ولع الشاعر علي خليفة بالبحر في أعماله الشعرية لفت انتباهي منذ مجموعته “أنين الصواري” التي كرسها للبحر وللغواص البحريني المتعب المقهور، كما أنها تلمّست أن رحلة الغوص في البحر ليست رحلة مثقلة باللؤلؤ بل بالألم والانكسار، لأن الغواص نفسه كان يرزح تحت وطأة الإقطاع البحري حينها.

لكن حضور البحر لدى الشاعر لم يقف عند هذا الحد في تعامله مع البحر بل تسلل إلى كل مجاميعه الشعرية التالية، وتحرّك باتجاهات ترميزية متنوعة، ويحيل العنوان إلى أنه في مجمله بحر واسع، ودور الشاعر هو الغوص في غياهبه بحثًا عن لؤلؤة النص المدهشة المتفردة.

مسكوتات النص

تعتقد الناقدة العراقية أن المنهج الأمثل لقراءة النص الإبداعي بمعزل عن جنسه الأدبي، سواء أكان شعرا أم سردا، والوقوف عند عتبته الأولى، وهي حضور الرغبة في التواصل مع النص، بمعنى أن يجد الناقد شيئا ما يجذبه للكتابة عن النص، أن يجد في صوت النص ما يروقه، وإذا تحقق ذلك فالخطوة الثانية هي خطوة البحث عن مسكوتات النص وفتح شفراته التي يخبئها المبدع.

تقول “لن تحصل تلك الخطوة إلا إذا كان الناقد عارفا بأدواته النقدية، وقادرًا على استخدام كل المناهج النقدية لخدمة النص وليس لخدمة ذاته، لذلك فأنا أعيب تماما على من يقف ليكتب عن نص وجد فيه عيوب الأولين والآخرين، وأعيب على الناقد الذي يلبس جلباب النابغة الذبياني، ويقول لهذا أحسنت ولذاك أسأت أو يمسك قلم المعلم الأحمر ليضع علامات للمبدع”.

الناقدة تعمل على إنجاز مشروع بيت الشعر العربي الأميركي، لتوثيق الصلة بين الشعرية العربية والأميركية

وتستطرد “أعيب على الناقد الذي ينظر إلى النص بوصفه حصانا جامحًا فيروضه بسوط المناهج النقدية، وغير ذلك من المسائل، فدع أزهار الحديقة تزدهر، واختر أنت زهرتك المفضلة”.

لا ترى الصائغ أن ثمة تراجعًا نقديًا في الاهتمام بالشعر؛ فكل شاعر -وكل مبدع- هو ناقد بالفطرة، لأنه يقدم قصيدته بعد أن حقق في حروفها قبل أن يقدمها لأي منبر إعلامي. ولكن هناك تراجعا في المؤسسات التي تحتضن النقد، إذ تعتبر النقد العربي كسفينة بلا ربان، فكل من كتب تفسيرا مدرسيا لقصيدة أو نص إبداعي أصبح ناقدًا، ومثل ذلك ينسحب على كل من انكب على كتابة القصيدة العمودية وفق البحور الخليلية فدخل من بوابة قصيدة النثر، فنثر الحروف على الورق خالية من دفقة الشعر وأصبح شاعرًا.

وتكشف الصائغ أن هناك الكثير من الأفكار الكتابيّة التي تعمل عليها حاليًا، منها استكمال مشروعها الكتابي عن الشعر الأميركي المعاصر، ودور القناع الشعري فيه. وأخذت نماذج كثيرة، منها قصائد لميللر، ومشروعها الكتابي “مقدمة عن الشعر العربي المعاصر”، والذي يركز على الأسماء الشعرية المعاصرة المهمشة التي تتقن حرفة الإبداع، لكنها تكتب في الزوايا المعتمة بعيدا عن الأجندات السياسية، كما أنها تنتظر صدور روايتها الجديدة بعنوان “ستمائة ليلة وليلة”.

كما تعمل الصائغ على إنجاز مشروع بيت الشعر العربي الأميركي، لتوثيق الصلة بين الشعر العربي من جانب، والأميركي من جانب آخر، وتوثيق الحراك الثقافي للشعر العربي في المهجر الأميركي.

وتندرج تحت هذا المشروع طباعة المجاميع الشعرية العربية والأميركية باللغتين العربية والإنجليزية، وعقد ندوات تحاور بين الشعراء العرب والأميركان للخروج بتصور عن تفاصيل الشعر كمنتج إنساني يبعد المبدع عن الأجندات السياسية.

صحيفة العرب