هذه الكتب التي لن نقرأها يوما -بقلم أمين الزاوي

امين الزاوي

لقد زحفت الكتب على الشقة من كل الجهات، حتى لم تترك ركناً لم تستوطنه، لم تعمره، تحاصرنا في الصالون والمطبخ وسرير النوم والكراج وفي الرواق، كتب رحلت معنا من بلاد إلى بلاد، رحلت معنا من مدينة إلى مدينة، رحلت مع أشيائنا العزيزة ومع أطفالنا من شقة إلى أخرى، بعضها يعيش معنا منذ المراهقة وبعضها منذ الطفولة وبعضها منذ سنة الزواج، بعضها عمره أكبر من عمر أطفالنا، وبعضها عمره أكبر من بعض معارفنا ومن أفراد عائلاتنا، بعضها وجد معنا قبل أن يبنى هذا الحي أصلاً، نخاف عليها ونفكر فيها ونحميها من سراق الكتب من الأصدقاء الأعزاء جداً، وإذا ما حصل وأن “اختطف” واحد منها، نبقى نذكره كما نذكر واحداً من أسرتنا غيّبه المنفى أو الهجران، وننتظر عودته.

كتب من كل الأحجام فيها القزم والعادي والضخم، وفي كل الأجناس، في الأدب شعره وروايته ونقده، وفي الدراسات اللغوية من اللسانيات إلى النحو والصرف وفقه اللغة، وفي الدين من المصحف بطبعات متعددة والتفاسير الشرقية والغربية النازلة من القرون القديمة والحديثة والفقه والشريعة وكتب الأحاديث من البخاري إلى مسلم إلى كتب المذاهب، وكتب التاريخ في تاريخ أفريقيا والعرب والبربر والمسلمين والحروب الصليبية والحروب العالمية والحروب القبلية والجهوية وحروب التحرير والحروب الاقتصادية…

كتب بلغات مختلفة بعضها بالعربية وبعضها بالأمازيغية وبالفرنسية والإنجليزية وبالإسبانية والألمانية وغيرها، لغات تتجاور حتى في لحظات، اختلاف الأنظمة التي تتخذ منها لغات رسمية ووطنية، تتعايش تحت سقف واحد.

كتاب يتعايشون على رف واحد على الرغم من اختلافاتهم ومن خصومات ساخنة بينهم، يتعايشون في ركن واحد، لسنوات عدة، يرحلون في كرتون واحد ويحطّون على رف واحد حط الحمام، على الرغم من الحروب التي بينهم، أو التي كانت بينهم، بعض هذ الكتب جاءت المكتبة وأصحابها من هذه الحياة ثم غادروا الحياة وظلت هي ها هنا قائمة تتحدى الموت وتتحدى الحدود.

المكان الوحيد الذي يلتقي فيه الأعداء والخصوم بسلام هو المكتبة، الأعداء المتخاصمون من الكتاب وما أكثرهم، لا يوجد كاتب لا خصم له، الخصومة جزء أساسي في تعريف الكاتب، لا يستطيع الكاتب أن يعيش من دون خصم، يعيش الكتّاب على الرغم من خصوماتهم، هكذا بقرار من القارئ الحاكم، جنباً إلى جنب، يعطي الواحد إلى الآخر ظهره أو وجهه ثم يظل ينظر الواحد إلى الآخر سنوات وسنوات من دون تعب.

جبال الكتب هذه التي تقابلنا كل صباح بالنظرة ذاتها التي لا تتغير وتودعنا ونحن ننسحب للنوم آخر الليل من دون تعب، لم نشعر يوماً أن تعب كتاب من متابعتنا أو من ملاحقتنا أو من معاشرتنا، أو هكذا يبدو لنا، نتأمل جبال الكتب وسلاسلها الممتدة فوق الرفوف وعلى الأرض الباردة شتاء والساخنة صيفاً ونقول في أنفسنا: يا إلهي كمشة من سنوات العمر لا تكفي لتصفح كل هذه الجبال، فما العمل؟

وفي اليوم التالي، نخرج إلى المدينة والكتب تودعنا في انتظار عودتنا في المساء أو مع نهاية الظهيرة، نعود ونحن نحمل كتاباً جديداً، فنجد له مكاناً على الرف أو قرب السرير ونبعد آخر كان هناك البارحة وقبل البارحة، وتمتلئ الشقة بكتاب آخر، وتنظر الكتب القديمة إلى الكتاب الجديد نظرة حيرة، فلا شيء تغير، الغلاف هو الغلاف والأوراق هي الأوراق واللغات هي اللغات والأجناس الأدبية هي ذاتها، وعطر الأحبار والأوراق هو ذاته، ويجلس الكتاب الجديد مع القدامى، مع الأجيال السابقة، وتمضي الأيام ويتعود هو الآخر عادة الغبار وربما الرحيل وربما الرطوبة ويتعود نزول حشرات عنيدة على الغلاف، وقد  يتربّص به سارق فيخطفه ذات سهرة مع الأصدقاء، سهرة المثقفين الساخنة بالنقاش في الأدب والسياسة وأنواع النبيذ، ولا يزال الواحد منا يقتني كل يوم كتاباً جديداً أو مجلة جديدة، ويصرف يوماً آخر من عمره؟

صحيح، إن علاقتنا بالكتب ليست علاقة قراءة فقط، إنها علاقة وجود وتعايش الكائنات الآدمية مع الكائنات الورقية، العلاقة بين المثقف والكتاب لا تقف عند القراءة، القراءة واحدة من هذه العلاقة المركبة، بل تتعداها إلى علاقات أخرى، حضور الكتب في البيت دواء سيكولوجي بامتياز، ينظر الإنسان إلى الكتب ككائنات حية من حوله، يتلمس فيها عوالم تملأ بيته وخياله وتغازل روحه، يجد في بعضها أنفاس أصدقاء مروا على هذه الحياة، يكتشفهم من خلال إهداء على الصفحة الأولى بتاريخ معين قد يكون مضت عليه عشريات، كتاب هدية من صديق يوم النجاح في البكالوريا، آخر هدية عيد ميلاد، يستعيد من خلال بعض الكتب مدناً زارها وفيها اكتشف أشياء وتعرف على أناس آخرين، بعض الكتب مرتبطة بذكريات حميمة بعضها حزين وبعضها سعيد. وفي كل الحالات، هي تعيدنا إلى ذاتنا بكل أبعادها وبكل تضاريسها.

أن ترى في بيتك كتاب المعلقات الجاهلية إلى جوار رسالة الغفران للمعري، وتاجر البندقية لشكسبير، وعودة الروح لتوفيق الحكيم، وديوان طفولة نهد لنزار قباني، وأزهار الشر لبودلير، ولمن تقرع الأجراس لهيمنغواي، والأم لمكسيم غوركي، وثرثرة على النيل لنجيب محفوظ، والحمار الذهبي لأبوليوس، والربوة المنسية لمولود معمري، واكتشاف الصحراء للطاهر جاووت، وفلسطين لهوبير حداد، وسأهبك غزالة لمالك حداد، وريح الجنوب لعبد الحميد بن هدوقة، وشرق المتوسط لعبد الرحمن منيف، ومدام بوفاري لفلوبير، ودون كيشوت لسرفنتيس، وذاكرة الجسد لأحلام مستغانمي، وتاريخ العيون المطفأة لنبيل سليمان، وعزلة الحلزون لخليل صويلح، وأجنحة الضاوية لربيعة جلطي، وسلالم ترولار لسمير قسيمي، واختلاط المواسم لبشير مفتي، وتوغالين لعمار مزداد، وترمي بشرر لعبده خال، وبريد الليل لهدى بركات… هذا العالم الكبير الواسع الذي في شقة صغيرة ضيقة، شقة من ثلاث غرف، هذا العالم بفوضاه وبأزمنته المتقاطعة ينتظم فوق رفوف في انسجام عجيب، وفي فوضى ضاجة صامتة مدهشة! الكتب قارة تجلس في شقة بحجم علبة الكبريت، قارة القارئ من ينتقي سكانها واحداً واحداً، واحداً بعد واحد.

ما في ذلك شك، كثير من هذه الكتب التي رافقتنا سنوات وقطعت معنا مسافات طويلة وعبرت معنا حدوداً وجمارك، وفصولاً باردة وأخرى حارة وثالثة عاصفة، سنرحل ذات يوم ولن نتمكن من قراءتها، بعضها كنا نقول حيالها: سنقرأها غداً، وفي الغد نقرأ كتاباً آخر، ونؤجل آخر إلى يوم آخر. وفي هذا التأجيل، ينبت حلم آخر لكتاب آخر، هذه الكتب التي لم نقرأها ربما هي التي تجعلنا نتشبّث بحلم الحياة أكثر فأكثر لأنها تعدنا بأشياء جميلة لا نعرفها، تسكن الكلمات وتنام بين الأوراق تنتظرنا من الصباح حتى المساء من الصيف حتى الشتاء، تعدنا بحيوات أخرى، نقرأ الكتب لكي نعيش الحياة مرات ومرات، نعيش حياة الآخرين من الكتّاب ومن شخوص روايات الكتاب، نشعر بأننا مرتبطون بالكتب أكثر فأكثر بعدما يغادر الأطفال البيت وقد أصبحوا شباباً، وخلقوا لهم شققاً بكتب أخرى وبأشياء أخرى، وبعد أن ينسانا الأصدقاء أو ننساهم أو يرحلون إلى العالم الآخر، ولا يبقى لنا إلّا الكتب تذكرنا بهم، وتعلمنا الوفاء لهم.

حضور الكتب من حولنا يمثل وجوداً عميقاً ولولاها ما كنا نعيش كما عشنا، عشنا لها وعاشت لنا. 

www.independentarabia.com