مَن أحرق بيت آمنة؟ – بقلم واسيني الاعرج

واسيني الاعرج

في القرون الوسطى بالتحديد، كان سدنة الضغينة يحرقون البشر بسبب مواقفهم في الحياة، غاليليو لم ينقذ من النار إلا عندما سلم بكذبة الكنيسة وقال عندما خُيِّر بين الحرق والنجاة: «إن الأرض ثابتة ولا تدور»، وعندما زحف ملوك الشمال في الأندلس في حروب الاسترداد باتجاه الجنوب شرعوا في حروبهم المختلفة، لكن أخطر آلة حرب مدمرة، ظلت تقتفي خطاهم، تسبقهم أحياناً، هي دواوين محاكم التفتيش المقدس، أو ما أسميتُهم بـ«حرّاس النوايا»، وظيفتهم المركزية هي مراقبة نوايا البشر وتسليط العقاب على المتهمين، ليس وفقاً لتهمة ظاهرة، ولكن بناء على ما نَوَوْهُ ضدك وظنوه فيك، كان العدو وقتها المسلم لأنّه وُضِع في صفّ المحتل الذي عليه أن يتمسح ويكفِّر عن ذنوبه أو يحرق، واليهودي لأنه اعتُبر المتسبب الرئيسي في مقتل سيدنا المسيح، وتحولت قبلة يهودا الإسخريوطي، إلى أيقونة للخيانة، وبناء عليه فقد تم حرق آلاف اليهود بناء على تهمة تاريخية.

وأُحرق الكثير من العلماء المسلمين، لأن الكنيسة الكاثوليكية نوت أن تحولهم نحو المسيحية لم يكن حقيقياً، ومجرد تقية لحماية النفس، ثم انتقل الحرق إلى الكتب لأنها الوسيلة المعرفية التي تشيع النور، فقد أحرق حراس النوايا كتب ابن رشد لأنها كان توقظ العقل الإنساني من سباته، وترفع من سوية الفكر البشري، كان الناس يرتحلون فقط لأنهم سمعوا بأن مخطوطة مهمة موجودة في المكان الفلاني، فينتقلون نحوها، ينقلونها، ويعودون منتصرين على الرغم من مخاطر المسالك والمهالك والفيافي التي كان عليهم قطعها ذهابا وإياب، وربما الشخص الوحيد في التاريخ الإنساني الذي أحرق كتبه بنفسه، قبل أن يجهز عليها حراس النوايا، هو أبوحيان التوحيدي، ليختفي بعدها في مغارة ويكتب: الإشارات الإلهية، بعيداً عن السلطان وأطماع الدنيا.

وها هي اليوم آلة حرق الكتب والمخطوطات تعود من جديد، فيحرق كتاب ألف ليلة وليلة مرة أخرى، ويتعرض بيت الروائي المغربي عزالدين التازي إلى عملية حرق مكتبته، قبل أن تأتي النار على بيته في تطوان.

.زرته يومها في بيته، وحكى لي القصة بالتفصيل، الخلاصة الوحيدة هي أن العدو الأساسي لحراس النوايا: عقل يفكر وكتاب يخرج من الظلمات إلى النور، فجأة يعود تاريخ القرون الوسطى محملاً بتاريخ من الدم والرماد ضد كل نور يمنح فرصاً جديدة للحياة، وقبل أيام قليلة، تعرّض بيت الباحثة الجامعية والروائية التونسية آمنة الرميلي، إلى النهب والإفساد والحرق، في ثانية واحدة تحول ميراث من الكتب والوثائق الثمينة والمخطوطات الإبداعية التي جُمِّعت بالتعب والكتابة المؤمنة، إلى رماد، هم يحرقون ونحن نكتب، يفرقون، ونحن نجمع، هم يهدمون، ونحن نبني.

تقول آمنة: «سيتجدد هذا الميراث العقلاني ويرتفع في وجه ظلمة الظلام، ولن يموت، لأنه مآل الإنسانية مهما كان حجم الرماد المترتب عن الحرق»، ويظل السؤال قائماً: من أحرق بيت آمنة والبشير؟.. يكفي أن نتذكر ما فعله حراس النوايا في ابن رشد، لنشمّ رائحتهم.
صحيفة الرؤية