رقعة شطرنج – بقلم علي عبيد الهاملي

علي-عبيد-الهاملي-1

على سطح باخرة متجهة من «نيويورك» إلى «بوينس أيرس» كان لقاؤهما؛ ميركو كزنتوفيك، بطل العالم في الشطرنج، الذي جاب أمريكا من شرقها إلى غربها، وانتصر في كل المباريات التي لعبها، وهو ذاهب الآن لإحراز انتصارات جديدة في الأرجنتين، والسيد «ب» الذي لم يشاهد رقعة شطرنج منذ خمس وعشرين سنة، وقضى جزءاً من حياته سجيناً بفيينا، بعد أن تم اعتقاله من قبل الشرطة العسكرية السرية الألمانية قبل يوم واحد فقط من اجتياح هتلر للنمسا، حيث حاول الغستابو انتزاع معلومات منه تدين الأديرة، أو العائلة الملكية النمساوية وكل المخلصين للنظام الملكي.

إن أي تصوّرٍ لمباراة في الشطرنج بين كزنتوفيك الذي لم يهزمه أحد حتى الآن، وبين السيد «ب» الذي لم يشاهد رقعة شطرنج منذ خمس وعشرين سنة، وتوقّع أن ينتصر السيد «ب» على كزنتوفيك سيكون تصوراً ساذجاً لا يمكن أن يحدث على أرض الواقع.

لكن هذا حدث على سطح الباخرة التي كانت متجهة من نيويورك إلى بوينس أيرس ضمن أحداث رواية «لاعب الشطرنج» للكاتب النمساوي «ستيفان زفايغ» الصادرة عام 1941م، قبل وفاة زفايغ منتحراً بعام واحد.

كان السيد «ب» قد سرق من جيب معطف كان معلقاً في غرفة الانتظار، قبل إحدى جلسات التحقيق معه، كتاباً صغيراً ظنه سيساعد في كسر ملل الاعتقال، فإذا به يجده كتيباً يشرح أحكام لعبة الشطرنج، ويتضمن قائمة لمئة وخمسين مباراة خاضها لاعبون محترفون، وقد كانت هذه المباريات سلاحاً عجيباً ضد رتابة المكان والزمان الخانقة داخل المعتقل.

هكذا اعترف السيد «ب» لمواطنه النمساوي الذي جاء لإقناعه بلعب مباراة ضد بطل العالم الذي كان يتصرف بغرور وعجرفة على ظهر الباخرة. وعلى مدى الشهور التي قضاها في السجن، استطاع السيد «ب» أن يحفظ المباريات المدونة في الكتيب عن ظهر قلب. ثم بدأ في لعب مباريات ضد نفسه، مقسماً إياها بين «أنا الأبيض» و«أنا الأسود» على رقعة الشطرنج.

الرغبة في لعب الشطرنج ضد نفسك هي في الواقع فكرة عبثية، وهي «أشد تناقضاً من الرغبة في القفز فوق ظلك» وفق السيد «ب». لكنه كان مضطراً لممارسة اللعب ضد نفسه لأنها كانت الوسيلة الوحيدة لقتل الفراغ الذي كان يعيش فيه داخل الزنزانة، حتى أنه لم يجد توصيفاً لحالته هذه سوى عبارة «التسمم بلعبة الشطرنج» التي لم تكن واردة في معجم الطب من قبل.

ينتصر السيد «ب» في المباراة الأولى على كزنتوفيك، لكنه ينفصل في المباراة الثانية عن واقعه، ويضْحي فريسة لنوبة جنون صامتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة، ثم ينسحب وسط ذهول الحاضرين مقرراً أن تكون هذه آخر مرة يلعب فيها الشطرنج.

كتب ستيفان زفايغ إلى صديقه هرمان كيستن قبل انتحاره بخمسة أسابيع يقول: «ليس هناك شيء مهم أقوله عن نفسي. كتبت قصة قصيرة حسب أنموذجي المفضل البائس، وهي أطول من أن تنشر في صحيفة أو مجلة، وأقصر من أن يضمها كتاب، وأشد غموضاً من أن يفهمها جمهور القراء العريض، وأشد غرابة من موضوعها في حد ذاته».

رقعة الشطرنج، بمربعاتها البالغة 64 وأحجارها المكونة من 32 قطعة، كانت مصدر إلهام لكثير من المؤلفين، وعنواناً مفضلاً لكثير من الكُتّاب. فقد اختارها الكاتب الكندي «وليام جاي كار» عنواناً لكتابه الشهير «أحجار على رقعة الشطرنج» الذي يكشف دور المنظمات السرية العالمية في إشعال الحروب والثورات، والذي ظل منذ صدوره في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي مرجعاً لتفسير الكثير من الأحداث التي وقعت قبل صدوره، والتي ظلت تتوالى بعده، حيث بقيت القوى الخفية تدير القادة والشعوب مثل أحجار على قطعة الشطرنج.

وهكذا فعل مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، زبغينو بريجينسكي، الذي أطلق على الكتاب الذي يتحدث فيه عن استمرار التفوق الأمريكي في القرن الحادي والعشرين اسم «رقعة الشطرنج الكبرى».

الحياة رقعة شطرنج تتعارك فوقها الأحجار بهدف محاصرة ملك الخصم وإماتته. هذه صورة لو تم تعميمها على ما قرأناه عن الأمم السابقة وعلى ما نعيشه اليوم من صراعات، لبدت الحياة ساحةَ معركةٍ الكلُّ فيها خاسر، حتى لو ربح بطل من الأبطال جولاتها كلها، أو ظهر لاعب خطف من ذاك البطل جولة ثم انسحب.

جريدة البيان