غضبة العمدة – بقلم إنعام كجه جي

إنعام_كجه_كي

منذ أن انطلقت حملات فضح المتحرشين ما عادت المرأة تسكت وتغض الطرف. ظهر في الغرب مفهوم «التحرش المعنوي». وتكدست أمام القضاة قضايا من هذا النوع. لم يعد التحرش الذي يعاقب عليه القانون يقتصر على مد اليد إلى جزء من الجسد. توسع الأمر ليشمل جرح المشاعر بالكلام واستغلال الموقع وفرض «الهيمنة الذكورية». وقد تحملت فاني شابيه تعليقات كثيرة تقلل من هيبتها حتى فاض بها الكيل وغضبت غضبة مضرية. من هي فاني وكيف تكون غضبة مضر؟
تشغل هذه السيدة منصب رئيسة البلدية في بلدة فرنسية صغيرة، أقصى الغرب من البلاد. عمدة من الحزب الاشتراكي تفوقت في الانتخابات على خصمها الذي ينتمي لأحد أحزاب اليمين. خسر كرسي العمدة واكتفى بمقعد في المجلس البلدي. ومن موقعه هذا راح ينتقص من هيبة فاني شابيه أمام مرؤوسيها. وهو قد انتهز فرصة اجتماع المجلس البلدي، قبل أيام، وسخر منها. لم يوجه لها الكلام بالصيغة الرسمية المعهودة: «مدام العمدة» بل خاطبها مثل تلميذ يشاغب معلمة في صف مدرسي. تتكلم فيرد عليها: «حاضر يا معلمة». وكلمة «ميتريس» في اللغة الفرنسية تعني المعلمة وتطلق أيضاً على العشيقة.
أما الغضبة المضرية فهي تلك التي وردت في قصيدة للشاعر بشار بن برد يقول فيها: «إذا ما غضبنا غضبة مضرية / هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما». ولم تهتك السيدة العمدة حجاب الشمس ولم تقطر الدم بل احمرت عيناها وانفجر بركانها على الطريقة الفرنسية. صاحت بخصمها: «إذا خاطبتني مرة أخرى بهذه الطريقة فإنك مطرود خارج الاجتماع». قالت له بالعربي الفصيح: «افرنقع».
معارك عادية يمكن أن تحدث في أي مكان. لكن الصحافة الفرنسية توقفت عند الحادثة باعتبارها دليلاً إضافياً على ما تلاقيه النساء في الوظائف العامة من مضايقات. لا يتعلق الأمر بكيفية أدائهن عملهن بقدر الاستهانة بهن لأنهن نساء. وقد فرض القانون مبدأ المحاصصة بين الجنسين في المراكز العليا لكنه عجز عن حماية المرأة من سفاهة بعض زملائها. ورغم ما تثيره فكرة المحاصصة من جدل فإنها تبقى حلاً لا بد منه. وهي مثل الكي، آخر العلاج.
ليت الأمر يقتصر على موظفة منتخبة من الأهالي في بلدة نائية، بل تعرضت وما زالت تتعرض له وزيرات ونائبات في البرلمان وموظفات ساميات. وقد شاهد العالم كله كيف جلس الرجال وتركوا أورسولا فون دير لين، رئيسة المفوضية الأوروبية، واقفة تبحث عن مقعد لها في اجتماع جرى في أنقرة. وحين غادرت إديث كريسون منصبها كرئيسة لوزراء فرنسا فإنها تفرغت لتأليف كتاب عما صادفته من استخفاف لمجرد أنها كانت أول امرأة تشغل ذلك الموقع.
تقدمت أربع نائبات فرنسيات، قبل سنوات، بدعاوى قضائية ضد زميل لهن كان نائباً لرئيس البرلمان. والتهمة هي التحرش الجنسي، الأمر الذي اضطره إلى الاستقالة. وتمر السنوات وتبقى العبارات الساخرة والمسيئة عملة رائجة في صفوف الجمعية الوطنية. إن أغلب التعليقات ينصب على ثياب النائبات. تتخلى كثيرات عن التنورة والفستان ويرتدين السروال. هناك عيون جريئة تتعب السيقان في البرلمان. وقد وجهت النائبة ماتيلد بانو نداء تطالب فيه باحترام المركز الوظيفي للمرأة، على الأقل. وجاء نداؤها بعد أن وصفها زميل من حزب منافس بالمجنونة وبائعة السمك.
ليت النائب الفرنسي، قليل الذوق، قرأ بشار بن برد، الشاعر الذي بدأنا به الكلام. لعله يفهم: «إن العيون التي في طرفها حور/ قتلننا ثم لم يحيين قتلانا».

جريدة الشرق الاوسط