‎ساكنو الصور

حسن مدن

ما أبلغ قول أبي العلاء المعري: «منازل قومٍ حدّثتنا حديثهم/ ولم أر أحلى من حديث المنازل». الحق أن المنازل التي عشنا فيها أو التي نعرفها لا تذكرنا فقط بأحاديث من عشنا معهم أو التقيناهم فيها، ولكن الأحاديث، خاصة منها ما يبقى حيّاً، مكوّن أساسي في الذاكرة، وحين ننأى عن منزل عشناه أو ألفناه، ويغيب من جمعنا بهم فيه، فإن المنزل ذاته يبقى ناطقاً بالذكرى. إنه، وهو الجماد، يتحدث أيضاً، حين يوقظ الذاكرة أو يشعلها من جديد بعد أن توارت تحت الرماد.

كلما عتقت الصورة، وولى زمن على تاريخ التقاطها، وغاب كلّ، أو بعض من حوتهم ذات نهار أو ليل، في لقاء أو حدث، ينتابنا شعور بأنهم أصبحوا ساكني هذه الصور، كأنها ولّت هي منزلهم، وعليها سينطبق، بصورة أو بأخرى، قول الشاعر: «لم أر أحلى من حديث المنازل»، رغم علمنا بأن حديث المنازل ليس باعثاً في بعض أو في الكثير من أحواله، على الفرح، ولكن حتى للشجن مذاقه الحميم، حين ينمّ عن عاطفة ساكنة في القلب تجاه من أصبحوا ساكني الصور.

نحن اليوم في زمن وفرة الصور والفيديوهات، التي تكاد أن تشكل بدرجة كبيرة بديلاً عما هو واقعي أو فعلي، رغم أنها مأخوذة منه، أو عاكسة له، للدرجة التي يلتبس فيها علينا الأمر، حول المكان الذي فيه الناس تعيش، أهي المنازل التي عناها أبو العلاء، أم هي الصور على أنواعها، رغم قول مارك أوجيه في كتابه (اللا أمكنة)، «إن الصورة هي واحدة فقط من آلاف الصور المحتملة»، وجرى انتقاؤها بعناية، ليس لأنها الأجود من الناحية التقنية كما يخال لنا، وإنما لأنها توصل الرسالة التي أراد من بثّها أن يوصلها، لتمارس «تأثيراً وتمتلك قوة تتجاوز إلى حد بعيد المعلومة الموضوعية التي تحملها».

تظلّ الصورة خيالاً، وما أبعد المسافة بين الخيال والواقع، وربما لهذا وقفت، وبتأثر، أمام تعليق كتبه الصديق الشاعر حسين درويش على صفحته، وهو ينشر خبر الرحيل المباغت والمحزن للناقد والأديب السوري عزت عمر الذي يعيش في الإمارات منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وله مساهمات نقدية وبحثية في غاية الأهمية للأدب الإماراتي الحديث، خاصة السردي منه، وكان مثال الإنسان الودود، المرهف، المتواضع، وهي صفات يلمسها في شخصه كل من عرفه عن قرب، وأنا أحدهم.

كتب حسين درويش وهو ينعى صديقه وصديقنا عزت عمر: «رغم علاقتنا التي امتدت لأكثر من 30 عاماً.. صورنا المشتركة قليلة.. كانت المشاعر والذكريات كثيرة لم تستوعبها عدسة كاميرا». يا له من تعبير بليغ.جر