من ديمقراطية السلف- بقلم خالد القشطيني

15520.8

وهذه موعظة من مواعظ دواوين الخلافة، وقد ورد ذكرها في «وفيات الأعيان»، قالوا إن الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك قَدَم حاجاً إلى بيت الله الحرام. فلما وصل الحرم التفت إلى أصحابه، وقال لهم: «ائتوني برجل من الصحابة»، فأجابوه وقالوا «يا أمير المؤمنين لقد تفانوا». قال «فائتوني بواحد من التابعين. فأتوا بطاوس اليماني. قالوا فلما دخل عليه خلع طاوس نعليه بحاشية بساط الخليفة. ولم يسلم بإمرة أمير المؤمنين. ولم يكنه. وجلس بجانبه بغير إذن من الخليفة. ثم قال: «كيف أنت يا هشام؟».
فغضب الخليفة من ذلك غضباً شديداً حتى همّ بقتله. فقيل يا أمير المؤمنين أنت في حرم الله عز وجل وحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلا يمكن ذلك. فالتفت إلى طاوس اليماني، وقال: «يا طاوس ما حملك على ما صنعت؟»، فأجابه طاوس قائلاً: «وما صنعت؟»، فاشتد غضب الخليفة عليه، وقال: «خلعت نعالك بحاشية بساطي. ولم تسلم عليّ بإمرة المؤمنين. ولم تكنني وجلست بإزائي بغير إذن وقلت يا هشام كيف أنت؟».
أجابه طاوس اليماني قائلاً: أما خلع نعالي بحاشية بساطك، فإنني أخلعهما بين يدي رب العزة كل يوم خمس مرات، فلا يعاتبني ولا يغضب عليَّ. وأما ما قلت لم تسلم عليَّ بإمرة أمير المؤمنين، فليس كل المؤمنين راضين بإمرتك، فخفت أن أكون كاذباً بقولي يا أمير المؤمنين.
وأما ما قلت لم تكنني (أي تستعمل الكنية في المخاطبة على عادة العرب)، فإن الله عز وجل إنما سمى الأنبياء بأسماهم، فقال يا داود… يا يحيى… يا عيسى، وكنى أعداءه فقال: «تبت يدا أبي لهب وتب…».
وواصل طاوس كلامه، فقال: وأما قولك جلست بإزائي فإنني سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، يقول: «إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار، فانظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام».
لا بد أن أصابت الكلمات الأخيرة مقتلاً في نفس الخليفة هشام بن عبد الملك، فتأمل في حكمتها، ثم التفت إلى طاوس اليماني، وقال: «عظني»، فأجابه طاوس قائلاً: «إني سمعت أمير المؤمنين علياً بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إن في جنهم حيات كالقلال وعقارب كالبغال تلدغ كل حاكم لا يعدل في حكمه».
وبعد هذا الوعظ قام طاوس وخرج. وقد خرج دون أن يأمر الخليفة، فيوقفه أو يعتقله أو يأمر أحداً من أتباعه بقتله. وكما قلتُ بعاليه، إن هذه الحكاية قد ورد ذكرها في «وفيات الأعيان». وقد قرأتها وهالني ما ورد فيها من عجيب القول.

الشرق الاوسط