نوتردام.. والتاريخ – بقلم د. يوسف الحسن

8520191

صدى تردد أصوات أجراسها، مازال في الذاكرة، منذ أول زيارة لها في منتصف السبعينات، تكررت الزيارات، في كل مرة تطأ قدماي المدينة الساحرة باريس.

يدهشك معمارها القوطي المهيب، ونوافذها الوردية الملونة، ومنحوتاتها المزخرفة، وزجاجها المعشق، وأيقوناتها وأبراجها، وجنباتها التي شهدت أحداثاً تاريخية هامة، وقدم فيها عازفون من أنحاء العالم أجمل الألحان الدينية والمدنية، على وقع (أورج) كبير صنع في القرن الخامس عشر.

عرفتها، قبل زيارتها، من رواية شهيرة كتبها (فيكتور هوغو)، سماها (أحدب نوتردام) في العام ١٨٣١، واتخذ (كاتدرائية نوتردام) مسرحاً لأحداثها. ومن فيلم سينمائي حمل اسم الرواية، وكان بطله الأحدب (أنتوني كوين). وبطلته الجميلة الغجرية (جينا لولو بريجيدا).

وكلما زرتها، أحرص على صعود درجات سلم ضيق إلى أعلى الكاتدرائية، لمشاهدة أجراسها، والتمتع بالمنظر البانورامي المبهر لباريس.

وعند سماع دقات أجراسها، تنشغل الذاكرة في استرجاع الشريط السينمائي، لأحدب نوتردام، الفقير والقبيح المنظر، ابن امرأة غجرية، وقد تربى في أحضان رجل دين في الكاتدرائية، ليكون قارعاً لأجراسها. ولما كبر، التقى فتاة غجرية جميلة، عطفت عليه ولم تسخر من عاهته أو تشوه جسده، ووقع الأحدب الطيب في حب دفء الجمال الإنساني المحروم منه. وضحى من أجل «إلقاء الجمال الإنساني في الحياة».

فيكتور هوغو (شكسبير الرواية)، أبدع في روايته، وهو يعزز مفهوم نبذ الظلم، وينصت لأصوات الضعفاء والمهمشين.

وحينما شبت النيران، في هذه الأيقونة التاريخية المميزة، شعرت بالحزن والصدمة، تذكرت حرائق وتفجيرات أصابت بشراً ومساجد ومعابد وآثاراً تاريخية في العراق وسوريا والقدس وأفغانستان والأندلس وغيرها من دول ومدن العالم، ولها تجلياتها وقيمتها الإنسانية والحضارية والتراثية، مثلما لها تجليات الوجد والعشق لأشيائها ومعمارها ورموزها، ولأسرارها التي تحمل شيئاً من قيمة الإبداع الإنساني في الأرض.

* في لحظة حريق الكاتدرائية تبرز معاني القلق الإنساني الحقيقي، والصدق الإنساني تجاه الآخر المجروح، ومعنى التسامح الأخلاقي والحضاري، وجوهر النزاهة الفكرية التي تعاند الانتقائية، وتكشف الكراهية المكتومة.

صدم العالم أمام هذا الحريق المفاجئ، وأعلن تضامنه الواسع مع فرنسا، وتقديره لهذه الأيقونة التاريخية، والمدرجة على لائحة «اليونسكو» للتراث العالمي، والتي هي جزء من الذاكرة الإنسانية.

أعرب الأزهر عن حزنه، وكذلك فعلت دول عربية كثيرة لكن المحزن أن أصواتاً سمجة أبدت شماتة بهذا الحريق، وأخرى جاهلة، مازالت تتغذى على التعصب المذموم، وأعاليل بأضاليل بأباطيل. وتشمت بضحايا الإرهاب، إذا كان الضحايا غير مسلمين.

مثل هؤلاء، يعانون تشوهاً ثقافياً وأخلاقياً، ويزيدون في تشويه صورة العرب والإسلام في عيون العالم.

الشماتة أو التشفي هو غلو مذموم، نابع من رؤية الذات دون سواها في هذا العالم، ويعزز التوترات الدينية، ويسهم في إنتاج مناخ من الكراهية والاحتقان.

* إن مشاركة الآخر، في محنته أو فاجعته الإنسانية هي تزكية للعلاقات الإنسانية بالتي هي أحسن، وإسهام في ترسيخ الاحترام المتبادل، وتصويب الصور الخاطئة، وإعلاء للإرث الإنساني، الذي هو جامع حضاري مشترك بين البشر.

إن الإحسان والمحبة الإنسانية والرحمة، هي قيم ضرورية لعمارة الأرض، مثلما هو الإقرار بالاختلاف والتنوع، كحقيقة إنسانية، وآية من آيات الله في الإنسان والكون، ومن شأن المودة والمشاركة واستباق الخيرات، أن تجعل هذا التنوع مصدر غنى للجميع.

إن قيمة العدل هي قيمة مطلقة، تلزم كل إنسان، بالانتصار للمظلوم والمكلوم والمضطهد، بغض النظر عن دينه ومعتقده وثقافته ولونه وأصله وفصله.

ولا يستقيم حوار حضاري، ولا تسامح أخلاقي بغير احترام الخصوصيات الفكرية والمشاعر والرموز والمقدسات الدينية للأنا وللآخر، ولا يقتصر ذلك على سلوك أتباع الديانات والمعتقدات تجاه بعضهم بعضاً، وإنما يعبر عن نفسه كذلك في وقوف الجميع معاً، ضد أي تخريب أو فاجعة أو امتهان يصيب تراث أو مقدسات أي منهم، وأياً كان مصدره.

كيف نبقي على حالة التسامح ، نقية من آثار التعصب ، ومنزهة عن الشعور بالتشفي أو الاستعلاء على الآخر؟

عند كل منا عن الآخر، صور موروثة ونمطية، لم تكن دائماً حلوة المذاق. نتذكر حروب الفرنجة الظالمة، حينما حاول أهلها، الهيمنة على المشرق العربي (ومسحنته) إذا جاز هذا التعبير. ونتذكر، هنا في الخليج العربي غزوة البرتغاليين وجيشها الشرس الذي قاده (البو كيرك) في القرن السادس عشر.

ونتذكر الإرث الاستعماري، مثلما يتذكر الأوروبيون، معركة (بواتييه) وكيف حاول مسلمو الأندلس (أسلمة أوروبا) إذا جاز هذا التعبير أيضاً، وحتى الحصار العثماني لمدينة فيينا.. إلخ.. الشماتة تخاصم القيم الإنسانية، وبخاصة في زمن نطلب فيه من العالم أن يكون معنا عادلاً ومنصفاً.

المهم… هو كيف نفلت جميعاً من أعباء التاريخ، ونقرأ التاريخ بنظرة التاريخ الحافز، وليس بنظرة التاريخ العبء؟

جريدة الخليج