«الأميركي الهادئ» لغراهام غرين: أمثولة عاطفية مبكرة عن الحرب الفيتنامية -بقلم ابراهيم العريس

25520181n

عندما نشر غراهام غرين روايته التي ستصبح الأشهر والأكثر شعبية بين أعماله، «الأميركي الهادئ» في العام 1955، لم تكن الولايات المتحدة قد تورطت بعد في الحرب الفيتنامية. كانت تلك الأخيرة لا تزال حربا استعمارية تقليدية يخوضها الثوار الشيوعيون ضد قوات الاحتلال الفرنسية. وكان كثر من المراقبين في العالم لا يزالون يقفون موقف المراقب المحايد من ذلك الصراع. فهم ما كان لهم أن يدعموا فرنسا في احتلالها تلك المناطق من الهند الصينية، كما أنهم لم يكن من السهل عليهم أن يناصروا الثوار الشيوعيين في قضيتهم حتى ولو كانت قضية محقة. ومن هنا ما نلاحظه في الرواية، أو في فصولها الأولى على الأقل، من حيادية المراسل الحربي الإنكليزي المكتهل فاولر وهو يغطي الحرب وفظاعاتها لحساب صحيفة التايمز البريطانية. بيد أننا سرعان ما سوف نتنبه بالتدريج إلى الكيفية التي سيخرج بها فاولر من تلك الحيادية، ليس تحديداً تحت وقع موقف عدائي يتخذه بوضوح ضد الفرنسيين- ولو أنه كثيراً ما راح ينتقد ممارساتهم-، بل تحت وطأة عنصرين يجدّان خلال مجرى الرواية ويشكلان، على أي حال، موضوعها وحبكتها، خاصة أن أحدهما يكشف عمق بصيرة غراهام غرين الذي يجب أن نقرّ له بالتبكير في تلمّس ملامح التدخل الأميركي في تلك المنطقة من العالم، ليس من موقع المؤرخ، بل من موقع الروائي. فهو يقول على أي حال في نوع من التمهيد للرواية جعله على شكل رسالة إهداء يوجهها إلى صديقتيه الفيتناميتين رينيه وفونغ، أنه استعار منهما اسميهما كما استعار بعض الأسماء الأخرى لأشخاص وأماكن عرفها شخصياً في سايغون، وأحداثاً شهدها… لكنه أعاد ترتيبها في روايته بحيث تخدم الرواية… فـ «الكتاب ليس نصاً تاريخياً يتوخى الدقة»، كما يقول.

> ولئن كانت بدايات التدخل الأميركي في فيتنام تَمثُل في هذا الكتاب باكراً إلى درجة تجعل من رواية غرين هذه العمل الأول في سلسلة الإبداعات العالمية التي تفضح ذلك التدخل، قبل أكثر من عقد من انكشافه. فإن هذا لا يأتي من قبل فاولر، لسان حال غرين في الرواية وأناه/ الآخر على الأرجح، إلا انطلاقاً من بعد ذاتي يشكل العنصر الثاني بين الإثنين اللذين أشرنا إليهما قبل سطور: حيث أنه يتعلق بذلك الشاب الأميركي الذي يحدث له أن ينضم ذات يوم في سايغون العائشة تحت وطأة العمليات الإرهابية في حرب نهاية الوجود الفرنسي هناك، إلى الثنائي الذي يشكله فاولر مع عشيقته الصبية الفيتنامية فونغ فيحاول منذ انضمامه إليهما انتزاعها منه تحت حجة أنه كشاب في سنها، أولى بها بالنظر إلى أن فاولر لن يستطيع أن يجعل منها أكثر من عشيقة طالما أن زوجته في لندن لن تمنحه الطلاق كي يتزوجا ويأخذها بعيدا من البؤس السايغوني الذي لا تريد مواصلة عيشه. إن الشاب البوسطني آردن بايل، يشكل فرصة مميزة لفونغ إذ يمكنه أن يمنحها الحرية والسعادة والحب مصطحباً إياها إلى العالم الجديد.

> والحقيقة أن تلك العلاقة الثلاثية التي تقوم بين فاولر، راوي الحكاية، وفونغ وبايل، هي موضوع الرواية. ولعل في إمكاننا أن ندرك بالتدريج رمزية هذا الموضوع في علاقة الغرب بفيتنام خلال تلك المرحلة التي كان يحاول فيها ذلك الغرب وراثة فرنسا في الهند الصينية، وقد باتت غير قادرة على مواصلة صراع بات أقوى منها لكنه، تحت وطأة الهجوم الشيوعي، يهدد بألا يكون البديل عن الفرنسيين مريحا للشعب البائس. وهكذا إذ يبدو الإنكليز ممثَّلين بفاولر قو عجوزة عاجزة عن اتخاذ موقف وعن أكثر من بذل الوعود المستحيل تحقيقها، يظهر الأميركيون على الساحة بديناميكيتهم وقدرتهم على الخداع وأريحيتهم وشبابهم… في تلك الأثناء على أي حال.

> والحقيقة أن غراهام غرين نفسه، لم يشجع قراءه أبداً على سلوك درب الترميز هذه عند قراءة الرواية. غير أن هذا التحليل يبدو منطقيا وبالغ الانسجام، إن لم يكن مع التاريخ كما كان يلوح في ذلك الحين، فعلى الأقل، مع أحداثه التي راحت تتتابع بعد ظهور رواية «الأميركي الهادئ» بسنوات لتقترح علينا ذلك التبصّر المبكر الذي يبديه غراهام غرين فيها.

> ومع هذا، علينا هنا أن نلتزم بما نصحنا به غرين، ونكتفي ببعض الإشارات السياسية قبل أن نعود إلى «روائية» هذا النصّ نفسها. فبايل على أي حال، يصل سايغون مزودا بأفكار سياسية هرطوقية تتطلع إلى إيجاد قوة ثالثة تتولى شؤون فييتنام. ومن الواضح أن هذه القوة سرعان ما تبدو متمثلة بالجنرال تي الذي ينشق عن القوات الفرنسية ليشكل جيشاً خاصاً، سوف يكتشف فاولر بعد حين أنه مسلّح ومدعوم من الأميركيين وتحديداً من طريق بايل نفسه الذي إذ يقدّم نفسه عاملاً في المجال الطبي وشؤون الإسعاف سيتبين لفاولر أنه يعمل لمصلحة وكالة الاستخبارات المركزية، ويوصل إلى الجنرال تي أسلحة ومتفجرات ستستخدمها قوات هذا الأخير للقيام بعمليات إرهابية تُنسب إلى الشيوعيين، وتكشف عجز الفرنسيين أمام أنظار العالم، وتحديداً بفضل مقالات ورسائل يبعث بها مراسلون «محايدون» وبالتالي مخدوعون من أمثال فاولر… إلى صحفهم.

> وهذا ما يردّنا هنا، في هذه الرواية الفذة، إلى بُعدها الروائي في نأي لنا عن الجانب التاريخي الذي حتى وإن كان، كما ألمحنا، يكشف وعياً مبكراً للروائي الكبير الذي سجل بهذا كونه أول مبدع «فضح» لعبة الأميركيين في فييتنام بل في الهند الصينية كلها، فإنه إنما يأتي هنا ليخدم صياغة رواية تكاد تكون بعد كل شيء رواية غرامية موضوعها الغيرة والصراع على المرأة، وربما حتى «انتهازية» هذه الأخيرة إذا ما شئنا الذهاب بالتحليل إلى منتهاه.

> فإذا كان سيبدو لنا أن لفاولر أسباباً سياسية تجعله سرعان ما يقف موقف العداء من بايل، إلى درجة أنه، دون أن يبدو عليه ذلك بكل وضوح، سوف يساعد الشيوعيين مساعدة حاسمة لقتل بايل إذ انكشفت لهم مهمته، فإن حقيقة الأمر تتجلى في أن دوافع فاولر شخصية أكثر بكثير من كونها سياسية. فذات لحظة وبعد حين من تمكّن بايل من إنقاذ حياة فاولر خلال رحلة صحفية يقومان بها كي يجري الصحفي اللندني حديثاً عاصفاً مع الجنرال تي، يتمكن بايل من التأثير على فونغ إذ أُغرم بها ويعرض عليها، في حضور فاولر نفسه، أن يتزوجها طالما أن الآخر لن يتمكن من ذلك أبداً، سيضمر فاولر الشر لغريمه بالتزامن مع اكتشافه حقيقة الشحنات «الطبية» التي تصل إلى تي ودور بايل في إيصالها. وهكذا إذ يفاجأ فاولر بأن مساعده في العمل الصحفي يطلب منه المشاركة في اجتذاب بايل إلى عشاء خاص يحلان فيه القضية الغرامية التي يتجابهان فيها، سيتجاوب مع الطلب على رغم إدراكه المفاجئ أن مساعده لا يعمل وحيداً بل مع الشيوعيين الذين فهموا ما يفعله بايل. وهكذا سيكون الحقد العاطفي ما يحرك فاولر دافعاً إياه إلى «تسليم» غريمه إلى الخناجر الشيوعية تمزقه ذات مساء.

> والحقيقة أن فاولر هو الذي يروي لنا كل هذه الحكاية بنفسه لكنه لن يبدأ من بدايتها بل من النهاية. من حيث تكتشف شرطة سايغون جثة بايل المدماة وتطرح أسئلتها على فاولر لمعرفة مدى تورطه في الجريمة. لكن فاولر لن يُطال لأنه في الحقيقة كان قد رتب أموره بحيث يُقتَل بايل من دون أن يكون هو حاضراً. وطبعاً دون أن يكون ثمة شاهد على تورطه. والذي يحدث في نهاية الأمر هو أن فونغ التي كانت بعد مقتل بايل، وإذ فقدت الأمل في أن تُنقذ من مصيرها كبائعة هوى في الملهى المحلي، لا تجد مفراً من أن تعود صاغرة إلى فاولر لتكون «له إلى الأبد» حتى وإن صار حقيقة بالنسبة إليها أنه لن يتزوجها أبداً…

> على هذه الشاكلة إذاً، عرف غراهم غرين ( 1904- 1991) في هذه الرواية ليس فقط كيف يقيم رابطاً مدهشاً وبسيطاً بين الخاص (حكاية الغرام والغيرة والانتقام الشخصي) والعام (الصراع على فيتنام في تلك السنوات الأولى من حربها التي ستدوم طويلاً ليكون بايل شرارة التدخل الأميركي فيها، وصورة لخبث الأميركيين الذين دائماً ما وقف غرين وأدبه منهم موقفاً عدائياً)، في شكل لا شك أن كثراً من الروائيين والسينمائيين الذين اشتغلوا على تلك الحرب ومعانيها، كان من المستحيل عليهم الإفلات من تأثيره.

جريدة الحياة