حبر وريشة وكتاب – بقلم صالحة غابش

304201842سيؤر

هل نحن إزاء مسرحيةٍ أو رواية؟ أم حكاية تُسَلسِلها أحداث عولجت بنظرة أخرى من أجل قراءة جديدة للتاريخ والثقافة، والمعلومات التي توارت عبر الزمن ووصلت إلينا؟

هل نحن إزاء قصيدة كتبت من التاريخ وللتاريخ، وفي كل قراءة لها معنى يخفق لغةً وَحّدتْها العواطف الدافئة، والمعرفة المتدفقة؟ حيث التقت الكلمات – شرقها وغربها، شمالها وجنوبها – عند حضرة الجمال الذي أطلق الفكر والعاطفة في أفقٍ واسعٍ يُمَكّنُنا من أن نقرأ.. أن نبحث في خريطتنا عن بحر المداد، حتى إذا وصلنا إلى موقعه جدفنا فيه بريشة وقلم.. عسى أن نكتب أجمل كتابٍ.. كتاب لم يكتب حتى الآن.

كنا ضيوفاً عند ألف ليلةٍ وليلة في مسرحية ألّفت الشارقة فصلها الأخير، وهي تتألق بتاج العاصمة العالمية للكتاب.

شهرزاد في لياليها الألف تفتح مدرسة البحث عن قيمة المعرفة، لا القيمة الأخلاقية وحسب، ولكن قيمة المكانة والرفعة، قل القيمة المادية التي تتجاوز حدود المال والمسكوكات النقدية إلى الجهد والعمل والسعي الذي لا يتوقف حتى نلامس الهدف.

لذلك، ليس كثيراً أن يقطع أحدنا الأمواج الهائجة وسط العواصف والرعود والجهل المتربص على شكل كائنات قاتمة عدوة تحول دون أن تصل إلى قلم تكتب فيه، ذلك أن للمعرفة قيمتها.

وليس كثيراً أن يخترق كائنَ الكراهية والحقد على الإنسانية ويحاربه بكل ما أوتي من قوةٍ فلا يستسلم لقوته الكاذبة وشجاعته الزائفة وحركاته الهشة من أجل أن يزرع نبتة حب تعيد الأمل بأن القادم أجمل.. وسيجدف قادماً إلينا عبر بحار زرق هادئة يرتوي منها القلم بقاءه وترياقه؛ ذلك أن للمعرفة قيمتها.

وليس كثيراً أن يكون مستعداً ليتجاوز الصحراء المترامية، متحملاً الظمأ، مواجهاً الخوف والوحشة في مكان يكاد يخلو من أنيس إلا أسئلةٍ يتحدى صعوبتها بإجاباتٍ لم تأتِ صدفة ولا سذاجةً.. إنها إجابات همست بها الحياة في أذنه، تلك التي قرأ فيها خبراته، وفهم غموضها واستعد لخوض التجربة التي وضعته شهرزاد في طريقها.. ذلك أن للمعرفة قيمتها.

الحبر في المسرحية كأنه مرادف للحب/ القلب/ العاطفة، والريشة وكأنها مرادفة للقوة/ المواجهة/ الشجاعة.

وحين يجتمع الحب بالقوة سيتمكن من مواجهة العقول المظلمة، والأفكار الجامدة.. والمشاعر القاسية، فيفتتها بما ندعوه «قوة التعبير».

الفصل الأخير من ألف ليلة وليلة هو فصل بدايةٍ.. فما إن تسدل الستارة معلنة نهاية الأحداث خلفها، حتى تبدأ ألف حكاية وحكايةٍ أمامها.. فالجمهور حكاياتُ إنسانٍ وحياةٍ لا خواتيم لها إلا خاتمة يريدها الخالق.. خالق الإنسان وخالق الحياة.. وحتى تأتي، فإننا في رحلة نعيش حكاياتنا الألف التي لا فصل أخيراً لها..

تلك هي رسالةٌ قرأتها مع أضواء وشخوص المسرحية التي جعلت من احتفالنا بالشارقة عاصمة عالمية للكتاب فرحة استثنائية، عشناها مع خمس وعشرين دولة تشارك بفنانيها ومغنيها وفرقها الاستعراضية. خمس وعشرون لغة تحدثت كلاماً وموسيقى وحركاتٍ وإيقاعاً وإضاءةً وديكوراً وإنتاجاً، مؤكدة ما يؤمن به صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، المؤرخ والروائي والمثقف العربي المسلم الكبير «أن الثقافة هي لغة العالم» بما في دفترها الكبير من قصائد وحكايات وروايات ومسرح وموسيقى ودراما وغناء وإنشاد وتشكيل وألوان وقيم عالية السمو تعكسها تلك اللغة العالمية في لحظةٍ فارقةٍ..

حيث تتجلى إجابة الشيخ سلطان بن أحمد القاسمي رئيس لجنة حفل افتتاح «الشارقة عاصمة عالمية للكتاب» عندما سألته ذات اجتماع مع شركاء الاحتفال بعاصمتنا العالمية عن معنى أن العمل لا يعتمد على حوار، فأجاب بأن الحوار لغة أخرى شكلتها تلك العناصر، فظهر ذلك كله على الخشبة التي قل فيها الكلام.. وسيطرت اللغة الأعمق.. لغة أخرى لا حاجة لأن نتهجى حروفها.

وفي وقفة زمنية.. في طرف بعيد من الخشبة، سكنت الحركات البهلوانية والاستعراض.. وتوارت أصوات الموسيقى والرواة والمغنين، وصمتت العناصر كلها.. شيء ما اخترق الصمت والسكون.. إيقاع وحيد يعلن الفرح ليهيئ من في قاعة المسرح لعودة «قادر وأمين وفيروز» بالمحبرة والريشة والكتاب، وليعلن اسم الشارقة على صوتٍ غنائي حميم وحنين يجعل الكتاب في مكتبتها الكبيرة على قمة هرم بناءِ الإنسان والمستقبل.

جريدة الخليج