صندوق الساحر… حلب – بقلم عزّت عمر

2972018251

تلك هي مدينتك وأشواقك، تستعد لاستقبالك بمعطفها المخملي المعتاد، وكأنّ الصيف مات على عتباتها، أو كأنّ الريح المحمّلة بالندى صدّته لتؤجّل أوان العنب. وكان الوقت مساءً، وأنا في غمرة سعادتي منشغل بما أراه من لوحات إعلانية برّاقة، تَعِدُ بمستقبلٍ زاهٍ كتلك الحزم الضوئية التي تَصدُر عن أضواء النيون الموزّعة على الطرقات وبين الأشجار وفوق البنايات، يا الله كم هي جميلة هذه الـ «حلب»! قلت.

هذه حجارتها البيضاء علامتُها المعمارية المميّزة منذ مئات السنين، وشوارعها الفائضة بالخضرة: وكانت الأشجار تحشد خضارها في كلّ مكان حتى إنها لتمدّ أغصانها نحو الضفّة الأخرى من الشارع كي تعانق شقيقاتها، وهي على الدوام تذكّرني ببيت المتنبي الشهير:

فسرتُ وقد حجبنَ الضوءَ عنّي

وجئنَ من الضياءِ بما كفاني

وأنا لا أعرف لِمَ يحضرني هذا البيت بالذات، كلما قصدت بيتي ماشياً؟ أهو المتنبي الذي عاش في حلب وتنقّل في حواريها، أم أنّ الخضرة الغائبة عني ترميني بأقواس قزحها، كي تنفتح الذكريات صندوقاً داخل صندوق، تماماً كصناديق ذلك الساحر الذي جاء مدرستنا بينما كنا صبية صغاراً، ثمّ راح يفتح صناديقه، ونحن مندهشون لهذا الكم من الصناديق، وهاهو من الصندوق الأخير يخرج خاتم الزواج الخاص بأستاذنا، فصفقنا له بجنون، ثمّ قدّمنا له باقات الزهر التي اقتطفناها من حدائق بيوتنا: ورد جوري وياسمين في الغالب، فما كان من الساحر المغتبط بكلّ هذا التصفيق والزهر، وقد انتابته الحماسة، إلاّ أن يسحب شاشة مخملية من القطيفة الحمراء خلفه، فبرز أمامنا صندوق ضخم… ضخم.

قال: هيا يا أولاد ساعدوني في فتح هذا الصندوق.

وهكذا تدافعنا بكلّ صخب العصافير نحوه نريد أن نرى ما في داخله، وإليكم ما رأينا:

– القلعة الغافية وسط المدينة كسنجاب يلتهم البندق فوق غصن.

ما انفكّت القلعة تشغل بال الصديق الأديب وليد إخلاصي، فتجدها في سائر أعماله رمزاً له دلالاته الغنية: مركز الكون، بل ربّما البطن الأمومي الخالد، الذي منه خرجت البشرية ثمّ استوطنت حولها في حلقة تتلوها حلقات وهكذا إلى نهاية المعمورة، لتصبح القلعة السرة التي كانت تغذّي كلّ هذه الأمم بحبلها،

وهكذا وجدتني أزوره في مكتبه كي أطمئن عليه، بعدما التمست في صحته اعتلالاً آن مجيئه دبيّ، ولن أبالغ إذا قلت لكم إنني وجدته مشرقاً إشراقة الأقحوان الجميل، فتبادلنا الذكريات والكلام، ثمّ أهداني كتابه الأخير «الفتوحات» وبعضاً من أعماله الكاملة، ولم يتركني حتى أخذ مني وعداً بقبول دعوته على العشاء في أي مكان أختاره، فتذكرت مطعم «الواحة» والقصّة التي كتبتها عن «طائر النار» التي هبطت من أجمل الفراديس إلى هذا المكان المتسخ من العالم، وبالطبع أنا أعني كلمة متسخ من دون حمولات أو إسقاطات، لأن «الواحة» فعلاً في منطقة صناعية، ولكنني اعتدت ارتياده مع مجموعة من الأصدقاء، وخصوصاً وليد، وفيما سأذكره أيضاً أن الشاعر أدونيس عندما زار حلب دعوناه إلى هناك، وكانت جلسة جميلة تبادلنا فيها أنخاب المحبة يوم كان الأصحاب أصحاباً.

– باب الحديد حيث دخل عشّاقك.

… وهكذا كنت كلّ يوم أعلّق على «باب الحديد» قصيدة، وكنت أعلم أنك ستنزلين بعد قليل كما الأميرات من شرفتك العالية، تقرئينها ثمّ تسافرين إلى ممالكك الفائضة بالزهور والثمار، إلى أولئك القادمين من الشرق البعيد كغيمة تدرأ الصواعق عنهم، وتظلل هجيرهم أيضاً… وإليك نماذج منهم:

«وفي صباح مبكّر حُمّلت العربات بنفائس الحرير والأرجوان والدمقس الموشّى برقائق الذهب، وبالإضافة إلى ذلك اختار مجموعة من الحلي وأمشاط العاج من صناعة الصائغ فالان، وثلاثة من عبيده لكي يسوقوا قطيع الهدي لمعبد إيل في «يمحاض»، ولطالما تساءلت عن أسرار هذا الذي قصدك بكلّ نفائسه في صباحه الباكر منذ ما يزيد عن ثلاثة آلاف عام، أتراه دخل حلب من «باب الحديد» ثمّ أقام في جوارك؟ على كلّ حال «البحتري» البدوي جاء من هناك أيضاً وغنّيت معه:

خيالٌ يعتريني في المنام

لسكرى اللَّحظِ فاتنةِ القوام

لعَلوةَ إنها شجنٌ لنفسي

وبَلبالٌ لقلبي المُستهام

سلامُ الله ِكلَّ صباحِ يومٍ

عليكِ ومَن يبلّغ لي سلامي

وهكذا سيأتيك أيضاً كلّ من الفارابي، بفيوضه وآلاته الموسيقية، والمتنبي باحثاً عن حبّه، ووصّاف جنائنك الصنوبري، وابن جنّي، والفارس الحمداني، إضافة الى المعرّي الذي قال: «إن الله تعالى اختار طباخين من حلب ليكونوا مسؤولين عن مطبخ الجنة، وذلك في الرحلة المتخيّلة لعلي بن القارح الحلبي التي كتبها أبو العلاء المعري تحت عنوان «رسالة الغفران».‏ وهذا أنا أخيراً بقصيدتي المسافرة إليك:

«يا رائحة الياسمين

المالئة دروبَ الأحبَّةِ

فكّيني من أسرك

دعيني أصل إليها…»

جريدة الحياة