زهرة الإسكندرية – بقلم إنعام كجه جي

13520184n

من خلال صفحتها على «فيسبوك»، تحكي الزهراء عادل عوض عن عملها كدليلة سياحية في الإسكندرية وعن مدينتها التي تعرفها مثل صفحة يدها. تفتتح نهارها بالتصبيح على الصديقات والأصدقاء وتنشر صورها مع البحر ومراكب الصيادين مزدانة بابتسامتها الواسعة. نعرف أنها تخصصت في السياحة الثقافية واصطحاب الزوار إلى مرابع الزمن السكندراني الماضي. حتى هنا والأمر عادي. لكن ما ليس عادياً هو أن تذهب المرشدة السياحية إلى مقابر عائلة يونانية سكنت المدينة أوائل القرن الماضي وتقوم بنفسها بتنظيف المكان وغسل قبر الجد ووضع الأزهار عليه لأن أحفاده الموزعين في أرجاء الدنيا يزورون مصر وسترافقهم لزيارة قبر جدهم. أرادت لهم أن يروا القبر جميلاً ومعتنى به، وأن الإسكندرية لا تجافي من ارتاح في تربتها.
ابتكرت الزهراء فكرة الجولات الثقافية. تدعو زوار المدينة إلى الأماكن التي ألهمت الروائي البريطاني لورنس داريل في رباعيته الشهيرة، أو تلك الواردة في روايات إبراهيم عبد المجيد، وتأخذهم إلى منزل الشاعر اليوناني كفافيس. تلاحظ، عند مرورها بقبره، أزهاراً تتجدد في كل مرّة. تسأل حارس المقبرة فيحكي لها عن شابة تأتي كل شهر وبيدها باقة يانعة. تنتظر الزهراء مجيء الزائرة وتعرف أنها طالبة إيطالية تدرس في القاهرة، اسمها يولاندا بوزولي، تعشق قصائد شاعر الإسكندرية الذي كتب: «المدينة ستتبعك دائماً، ستمشي في الدروب نفسها وستشيخ في ذات الجوار القديم وتصبح رمادياً في هذي البيوت».
تلاحظ الدليلة أن بعض ملامح مدينتها تصبح رمادية، وأن مباني تاريخية كثيرة تتهدم وتزول. ولما ذهبت إلى حي كوم الدكة في عيد ميلاد سيد درويش، وجدت أن المكان الجميل تحوّل إلى أكوام زبالة وعشوائيات. لكن الزهراء تأبى إلا أن تتباهى بجمالات الإسكندرية، وتنشر لقطة لبابا الروم الأرثوذكس وهو يدلي بصوته في الانتخابات في حي العطارين، أو صورة لنقوش بلاط قديم في عيادة تقع في محطة الرمل، أو لتذكرة الدخول إلى حدائق المنتزه عندما كانت طفلة، والسعر جنيه وعشرة صاغ، واليوم سعر التذكرة 25 جنيها.
في الشهر الماضي احتفلت المدينة بأسبوع «العودة إلى الجذور». وكتبت الزهراء على صفحتها أن 160 قبرصياً ويونانياً جاءوا لزيارة مرابع طفولتهم وصباهم. ونشرت صوراً لها معهم وهم يتماسكون ويرقصون مثلما رقص زوربا على الشاطئ في فيلم كاكويانيس. تغمر البهجة رجالاً ونساء تجاوزوا السبعين، يشترون حلوى الفريسكا فتعيدهم إلى مذاقات صباهم، ويقفون عند باعة فاكهة الحرنكش، ويتذكرون أن أمهاتهم كن يسمّينها «الست المستحية» لأنها مغلفة بغلالة نباتية.
يتابع صفحة الزهراء أصدقاء من 18 جنسية مختلفة. وقد كتب لها أحفاد المستر فروجي، المهاجرون إلى أستراليا، يطلبون أن ترسل لهم صورة لمنزل جدهم الذي كان عميداً للجالية المالطية في الإسكندرية. تلبي الطلبات وتنزل كل يوم لتغطس بسيارتها الصغيرة في زحام الكورنيش وتندسّ في الشوارع الضيقة لكي لا تفلت منها روح المدينة.
تلف شعرها بوشاح فيروزي وتمشي أمام فوج من السياح يستمع إلى معلوماتها الغنية وشرحها الشائق. تقول لهم إن لغة الإسكندرانية خليط من لغات، فهي من الجيل الذي ما زال يسمي الشبشب «منتوفلي»، والمحفظة «جوزدان»، ومكتب البريد «بوستة». لكنها ترفض أن تتحول الكنافة إلى baby hair والقطايف إلى Cute lips، والويل لمن تسوّل له نفسه التحرّش بتسميات كعب الغزال ورموش الست وصوابع زينب. توصل السياح إلى محطة القطار وتعزمهم على هريسة إسكندراني من العصافيري. تطمئنهم أن الهريسة حلوى مغمورة بالعسل، وليست شطّة لاذعة مثلما هي عند المغاربة.

الشرق الاوسط