اسمع، يا سيدي الرجل – بقلم نوري الجراح

29201811
خطاب عربي مبكر في أحوال المرأة

في 1908 توفي في القاهرة قاسم أمين صاحب كتابي “تحرير المرأة” و”المرأة الجديدة”. وفي السنة نفسها ولدت في لبنان نظيرة زين الدين (1908 – 1976) التي سيقيض لها أن تضع في العام 1928 كتابا تحت عنوان “السفور والحجاب” سيحدث صدوره في ذلك العام دويا كبيرا في سوريا الكبرى والعالم العربي، ونقاشا سينخرط فيه أدباء ومفكرون من أمثال: محمد كرد علي، وعبدالله العلايلي، وعلي عبدالرازق، وخليل مطران، ومحمد جميل بيهم، وأمين الريحاني، وهدى شعراوي، وفؤاد حداد، ومحمد تاج الدين الحسيني، والشيخ مصطفى الغلاييني، وغيرهم كثر من مثقفي الأمة في ذلك الزمان.

مئة وعشر سنوات مرت على ولادة نظيرة زين الدين، وتسعون عاما على ظهور كتابها الجريء المثير للجدل، ولا تزال موضوعات هذا الكتاب وأسئلته والإشكاليات التي أثارها، قائمة، إلى اليوم. بل إن الآمال الكبرى بتحرر المرأة، ونيلها حقوقها في العالم العربي، تلكأت، في بعض بلدانه، وتقهقرت في أخرى، وتحولت في غيرها إلى انتكاسات، وكوابيس.

***

لم تكن الآنسة نظيرة التي شهدت النور في بعقلين بجبل لبنان، لأب حقوقي كان يرأس محكمة الاستئناف في بلده، قد أتمت العشرين ربيعا عندما تناقلت الصحافة الصادرة في دمشق وحلب وبغداد والإسكندرية والقاهرة أخبار كتابها “السفور والحجاب” مقرونة بإكبار وتعاطف تارة، وتارة أخرى بانتقادات حادة من على منابر المساجد، مشفوعة باتهام ظالم بالكفر والزندقة، ومن ثم بأخبار عن مظاهرات تطالب بقتل صاحبة الكتاب.

ومع احتدام النقاش والجدال بين مؤيدي الكاتبة ومعارضيها في أوساط النخبة المثقفة وعامة الناس على حد سواء، استمرت الضجة على مدار عام كامل، وبذلك أتمَّ الكتابُ بلورة تيارين كانا ينشطان في أوساط الناس في عواصم المشرق العربي يومذاك دمشق، القاهرة، بيروت، بغداد، تونس، هما تيار السفوريين دعاة نزع الحجاب، وتيار الحجابيين المنادين بضرورة الالتزام به. ورغم أن نظيرة زين الدين تحسبت كثيرا واحتاطت من جراء الدعوات المتطرفة المنادية بسفك دمها (جرت أكثر من محاولة لاغتيالها في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي)، فإنها ظلت على موقفها، بل أفصحت عن شخصية غاية في الجرأة عندما عمدت إلى جمع المقالات والمحاضرات والنصوص الكثيرة التي صدرت حول كتابها بين مؤيد ومخالف، ففندتها وردت عليها في كتاب آخر أعطته عنوانا متحديا هو “الفتاة والشيوخ” صدر في بيروت عام 1929 ووقف على طبعه والدها السيد سعيد بك زين الدين، وحمل الكتاب تعريفا بفحواه صيغ على النحو الآتي: “نظرات ومناظرات في السفور والحجاب وتحرير العقل – وتحرير المرأة – والتجدد الاجتماعي في العالم الإسلامي”.

***

ناقشت الكاتبة في “السفور والحجاب” جملة من القضايا أبرزها: حرية الاختلاط بين الجنسين في المدارس والمنتديات والأماكن العامة، مساواة المرأة بالرجل في كل شيء، حرية المرأة في التفكير واتخاذ القرار، اشتراك النساء في الحكم وانتزاع حق الانتخاب للمرأة، حق الاجتهاد في الدين، اتباع شرع الله والاحتكام إلى القرآن وتخليصه من التأويل المغرض وتفسيره وفق التطور العصري، حرية الاختيار بين الحجاب والسفور، إصلاح الأسرة وتنظيمها على نحو يسمح بشيوع قيم المساواة بين أفرادها، والدعوة إلى الأخذ بالملبس المناسب للعصر.

 

انطلقت نظيرة زين الدين في وضع كتابها من الرغبة في إصلاح مجتمع بدا مع مطلع القرن أن ما من سبيل إلى إصلاحه ما لم يرفع أبناؤه الظلم عن نصفه الغائب وراء الجدران، وتصدت، بالتالي، لكل ما يتأسس عليه الخلل الاجتماعي من مظاهر ظلم واستعباد تسبب بهما فساد التقاليد والعادات وفساد السلطة في مجتمعات تستغل فيها الشرائع لتدعيم هيمنة الدولة الأبوية على مواطنيها.

واستندت نظيرة في دعوتها لتحرّر المرأة إلى الشرع الإسلامي نفسه الذي استغلته القوى المضادة للتحرر الاجتماعي. وكان ظهور كتابها بعد عام من أحداث وقعت في دمشق تصدى فيه التقليديون للسفوريات ومناصريهن من السفوريين، حصل على إثرها ضغط لحرية المسلمات، ومنع لهن من السفور والتمتع بالهواء والنور كما أشارت. وكانت، وهي ابنة البيت العريق في تقديره للعمل وإجلاله للمعرفة، قد شرعت في تلك الأجواء العاصفة في كتابة محاضرة حول المرأة اتخذت من الأحداث ملهما لها ومحرضا. فإذا بالقلم يسترسل، وبالبحث يتشعب، وبالمحاضرة تغدو محاضرات، إلى أن صارت هذه فصولا تؤلف كتابا.

تقول نظيرة زين الدين في مقدمة كتابها: لم أجز لنفسي في سبيل إيجازها (أي إيجاز المحاضرة الأصلية) أن أترك من شرع الله لآلئ بعد إحرازها، ولئلا تبقى في حجاب عن أولي الألباب، أودعتها ما يلي من الصفحات، وأرسلتها سافرة إلى الأمة في طليعة السافرات تلك اللواتي سينفخن فيها روح الحياة.

تطرقت الآنسة نظيرة زين الدين إلى مسائل الحرية والحق والشرع والدين والعقل، وقدمت ما اعتبرته نوعين من الأدلة على وجوب تحرر المرأة ومساواتها بالرجل: الأدلة العقلية والأدلة الدينية، ورأت تداخلا بين هذه وتلك، لأن الدين والعقل متآزران متضامنان في الحق لا يفترقان. وساقت في كتابها آراء مضادة لتحرر المرأة ففندتها وعلقت عليها، ورفضتها. ونرى في مقدمتها لكتابها كيف أنها تفرق بين نمطين من الرجال: متحرر يعمل لخير الأمة، وبالتالي فهو يناصر المرأة ويناصر حقها في المساواة، وسعيها إلى الترقي، وتسميه بالرجل الراقي، ومتخلف سلوكه مخالف للمنطق ولكتاب الله وسنّة رسوله لأنه ضل عن معالم الخير وجهل مصالح الأمة وخالف العقل ولم يعرف نفسه فبخس المرأة حقا، وسام الحرَّةَ رقّا، فهو الرجل الجاهل صاحب الورع البارد.

***

إن استعادة هذا الكتاب وكاتبته من العتمة التي آلا إليها بفعل الإهمال نفسه الذي لحق بالنتاج الفكري والأدبي للعشرات من الكاتبات والكتاب العرب المتنورين في فترة ما بعد الحربين العالميتين، أمر يكتسب أهمية استثنائية في ظل الدعوات الراهنة الرامية إلى إعادة صياغة العالم العربي وفق نظرة تنكر على المرأة حقوقها التي نالتها وتلك التي تتشوق إلى نيلها.

وإذا كان هذا الكتاب قد لقي احتفاء به أطلقت شرارته مجلة “الكاتبة” سنة 1993 عندما نشرت مقاطع من الكتاب تحت عنوان “اسمع يا سيدي الرجل”، فإن “الجديد” إذا تحتفي بالكاتبة في سياق احتفاء عددها الحالي بأدب المرأة وفكرها، إنما تعد قرّاءها بألاّ يمر عدد من أعدادها من دون الكشف عن شخصية نهضوية عربية لعبت دورا في الدعوة إلى تحرر المرأة واستعادة حقوقها، وبالتالي تكريس جانب أساسي من جهد المجلة للكشف عن النصوص والخطابات الفكرية العربية المبكرة المتعلقة بالمرأة.

صحيفة العرب