هدى بركات: الرجال في رواياتي ضعفاء – بقلم محمد الحمامصي

template-for-news
الروائية اللبنانية هدى بركات تؤكد أن أحداث السنوات الأخيرة كشفت في الشخصية العربية أعطاباً وجودية.

منذ روايتها الأولى “حجر الضحك” استطاعت الروائية اللبنانية هدى بركات أن تحتل مكانة متميزة في مسيرة الرواية اللبنانية خاصة والعربية عامة، حيث تلتها برواية لا تقل جمالا وثراء وهي “حارث المياه” التي فازت بجائزة نجيب محفوظ عام 2001 لتتوالى بعد ذلك رواياتها “أهل الهوى” و”سيدي وحبيبي” و”بريد الليل” و”ملكوت هذه الأرض” التي حظيت باهتمام واسع بين المتلقين والنقاد على امتداد العالم العربي لثراء النص واكتناز الرؤى التي قدمتها الرواية وأيضاً بفعل تمكّن الكاتبة من رسم شخصياتها وابتكار أحداثها، وهو ما جعل هذا العمل الروائي غنيا بعوالم متعددة الملامح والوجودات بكل ما تزخر به وما يتخلق فيه بفعل خيال خصب.

العام الماضي فازت الكاتبة بجائزة العويس في دورتها الخامسة عشر، وهو ما دل على طبيعة الاستقبال الذي باتت تحظى به من قبل النقاد والقراء على حد سواء، وهو تأكيد على براعتها في إبداع عمل روائي متميز. جاء في تقييم لجنة التحكيم للجائزة “أعمال هدى بركات طافحة بالفقد والخسران والتيه والعنف والبحث عن معنى في الفوضى العارمة حولها، حيث تكتب بلغة عالية عن الشخصيات والتواريخ، وتنوع في رواياتها بين فنون الكتابة الذاتية والسردية”.

في هذا الحوار مع بركات نتعرف على ملامح من تجربتها الأدبية.

الجديد: هل تعتبرين روايتك الأخيرة “بريد الليل” مانيفستو ضد كل ما حدث في السنوات الأخيرة في المنطقة العربية؟

هدى بركات: قد تكون روايتي الأخيرة “بريد الليل” مانيفستو عاطفي -قطعا ليس سياسيا- إنّها أقرب إلى الشكوى العميقة التي لا تجد من تشكو إليه. فأحداث السنوات الأخيرة، كما تسمّيها، كشفت أعطابا كثيرة في مجتمعاتنا العربيّة، أعطابا وجوديّة بالفعل، وأكثر من دفع الثمن هم الضعفاء المنكشفون دون حماية، وهؤلاء الذين ازدادوا غربة على غربتهم.

الجديد: رسائل “بريد الليل” لا تصل.. هل هذا لأنك تعتقدين بأن الأمل شبه معدوم بالنسبة لمجتمعاتنا العربية؟

هدى بركاتنعم، إنّها رسائل لا تصل إلى المرسل إليهم، تعترضها أقدار وظروف، حتّى نخال أنّها، حين كُتبت، لم يكن كاتبُها يأمل فعلا بوصولها… لذا تتخذ الرسالة شكل الشكوى لإنسان مستوحش ووحيد. يحمل الظلم كما يحمل البراءة عبئا. فترتجّ الحدود، مثلا، بين الفعل الإجرامي وسلّم الأخلاقيّات. وكذلك بين الواقع والخيال.

إنّها مرحلة اللايقين بامتياز، كأنّنا في ليل بهيم فقدنا فيه القدرة على فصل الخيط الأبيض من الخيط الأسود. وذلك من دون مراجع ثابتة إلى أيّ نوع انتمت… شخصيّات الرسائل ضائعة لأنّها واقعة في يُتم بلدانها ومجتمعاتها. هل نسمّي هذه الحالة يأسا؟ إنّه تخبّط وضياع كبيران. وفي هذه الحال ليس هناك أجوبة ليتشكّل الأمل، علينا فقط، ربّما، البحث عن الأسئلة الآن.

الجديد: قصصك في “بريد الليل” تقطع الأنفاس حتى ليخال القارئ أنه لن يخرج حيا من مغامرة القراءة. هل من جدلية واضحة بالنسبة لك بين الجلد “جلد القارئ” وتمتيعه عبر أدب يليق به هذا الاسم؟

هدى بركات: أعتقد أنّها المتاهة، بتقنيّة الرسائل التائهة، بحيث نخرج من تفاصيل النصوص الفرديّة إلى المشهد وهو مكتمل لنجد ما يربط بين هؤلاء جميعا. إنّه انكسار حيوات ضاعت بضياع مراجع هوّياتها بحدّها الأدنى.

وفي الفصل الثاني، “في المطار” حيث تجتمع مصائر لا يجمع في ما بينها سوى عبث الحياة، يتأكّد شيئا فشيئا سوء الفهم الفظيع الذي نخضع له كعرب في مجتمعات اللجوء والهرب. إنّها غربة مزدوجة، عن بلداننا التي تركنا حروبها هربا، وعن أمكنة اللجوء حيث لا يريدنا ولا يقبل بنا أحد.

ليس هناك أحكام قيمة في هذه الرسائل. هذا ربّما ما يجعل منها عملا أدبيّا خالصا. لا أعتقد أنّ في ذلك “جلدا للقارئ” كما تقول. لكن نزع الوهم والنظر إلى موضع الألم يتطلّب ولو القليل من الشجاعة على مواجهة العري.

الجديد: “ملكوت هذه الأرض” هو كتاب العودة إلى منطقتك في شمال لبنان، وهو برأي الكثيرين تحفتك، هل هذا هو البرهان على أن الكاتب مهما هاجر وتغرّب سيبقى ابن بيئته؟

هدى بركات: روايتي “ملكوت هذه الأرض” شغلتني لسنوات طويلة، وانتظرت من أجل البدء بكتابتها استعدادا داخليا. ليس فقط لأنّها “عودة” إلى المكان الأوّل، بل بسبب ما استحالت إليه أحوال التفتّت في كافة المجتمعات العربيّة.

فلو استبدلنا لبنان الشمالي بمناطق من سوريا أو العراق مثلا لوقعنا على معادل غير بعيد لبلدان فشلت في تحقيق استقلالها، وأضاعت طريق اللحمة الوطنية والمواطنة لتغرق في لجج المذهبية والقومية المتعصّبة… العودة إلى مطلع القرن الماضي كانت بالنسبة لي الصعود إلى منابع الفشل الأولى. كيف حصل ما حصل ومن أيّ نقطة أو موضع بدأ الشرخ؟

بالطبع عدت إلى ما أعرفه، إلى بيئتي، وقد أقول لك إن الهجرة والتغرّب يزيدان من حدّة الرؤية، ويثريان المسافة المكانيّة والزمنيّة على السواء من شوق الغوص في البيئة التي يخرج منها الكاتب ليعود أكثر تمكّنا من أدواته، وأكثر تطلّبا في نوعيّة ما يكتب… دون الوقوع في نوستالجيا سخيفة طبعا، تجمّل بدل أن تقاضي.

الجديد: جدوديّتك تظهر في “ملكوت هذه الأرض”، بعد الأمومة ما الذي تضيفه الجدوديّة للكاتب؟

هدى بركات: أعتقد أنّنا أضعنا الجدود، في ما أضعنا من موروثاتنا الجميلة. كأنّنا في لحظات غضب ونكران أردنا إلغاء الماضي برمّته. اعتقدنا أنّها أوهام “الحداثة”، وطبعا كانت لحظة عمى سمّيناها “ثوريّة”.

اختلطت على جيلنا أمور كثيرة، وحين عدنا إليها لم نجدها. في حكايات العائلة كما في بناء المدن وأحوال المجتمع رمينا الطفل مع ماء الحمّام كما يقول المثل الفرنسي. استعادتي الجدّ في الرواية كانت ركيزة انطلاقها، ومفتاح قراءتها الأوّل.

الآن أنا جدّة. شخصيا هذا يضيف إلى معاني حياتي ثراء كبيرا وفرحا بلا حدود. لكن حزني الوحيد هو عدم استطاعتي التكلّم مع ياسمين باللغة العربيّة، رغم أنّها باتت ترطن بها قليلا لأنّها تتعلّمها في مدرسة خاصّة. أحاول التعويض قدر المستطاع، بالحكاية والأغاني، وبالطبخ أيضا، وبالسفر إلى لبنان كلّما سنحت الظروف… وبانتظار أن يسمح القانون بإعطائها جنسية أمّها.

الجديد: بداية هل نستطيع القول إنك تأخرت في إصدار عملك الروائي الأولى “حجر الضحك”؟

هدى بركات: نعم هذا صحيح. لم أكن مستعجلة. لم يكن يهمّني إضافة كميّة من أوراق بلا قيمة على الكميات التي تُنشر. النشر مسؤوليّة كبيرة كنت أتهيّبها جدا. فقط حين نشرت مجموعتي “زائرات” التي كتبتها كتمرين، رحت أفكّر بروايتي الأولى “حجر الضحك”. قضيت في كتابة ومحو حوالي خمس سنوات أو أكثر.

أولا بسبب ظروف الحرب والتهجير، وثانيا بسبب تجربتي في الحياة التي كانت تتغير بسرعة، ولإدراكي أن الكتابة –وهي لم تكن من أولوياتي مع وجود طفلين صغيرين– عمل بناء جادّ وشاقّ وعليه أن يحمل جديدا ولو بحدّ أدنى. ومرّة أخرى أقول إنّي لم أكن مستعجلة، كما ما زلت حتى الآن، وسأبقى أشتغل على إيقاعي الخاص. فعدد الإصدارات لا يهمني أبدا، كما لا يهمّني حضوري “الاجتماعي” ككاتبة.

الجديد: على الرغم من أن “حجر الضحك” كانت روايتك الأولى فقد حازت احتفاء كبيرا من قبل القارئ قبل الناقد هل كنت تتوقعين ذلك، وهل لذلك علاقة بكونها تناولت الحرب الأهلية اللبنانية من جانب واتخاذها لمثلي شخصية أساسية؟

هدى بركات: هذا صحيح. والحقيقة أنّه فاجأني فعلا. فـ”حجر الضحك” لامست في نجاحها أبعادا لم أكن أتوقّعها. وما فاجأني فعلا، وما يزال، أنها لم تخضع لأيّ نوع من الرقابة رغم تداولها الواسع حتى اليوم.

كنت أعتقد أنها ستواجه أقلّه بعض “المآخذ” في موضوعات جديدة، خاصّة في تناول شخصيّة المثلي من دون حكم قيمي سلبي، وما يستتبع ذلك من صفحات جريئة في تصريفات الحب من دون أن تكون جنسيّة أو بورنوغرافيّة.

لم تكن “حجر الضحك” الرواية الأولى التي تناولت الحرب الأهلية، ولا أعتقد أن ذلك سبب نجاحها بأيّ حال. ليس الموضوع، أيّ موضوع، هو ما يعطي الأهميّة لعمل روائي، أو فني عموما. بل كيفيّة التناول، وبأيّ محمول ثقافي، وبأي عمق لوعي المبدع… وهي “شروط” صعبة للغاية، لا يمكن توقّعها، أو التقصّد فيها.

أنا شخصيا لا أفكّر في “أسباب النجاح” وقد لا يقلقني بعض صعوبة في التلقّي. هذا ليس شغلي. بل هو من ملحقات العمل التي تأتي بعد الانتهاء منه… وقد تكون بعض ظروف الواقع إعاقة أمام نجاح عمل جيّد ما، وهذا لا يُنقص من جدارته وجدّته… حصل ذلك مع روائع كثيرة. ليس من شأن الكاتب طلب “ضمانات نجاح”، أو العمل على ذلك، بل أن العكس قد يكون صحيحا.

الجديد: الكتابة في رواية “سيدي وحبيبي” جاءت سرداً متقطعاً وغير متسلسل، هل كان ذلك من جانبك بمثابة تقنية مناسبة في السرد أم هي صيغة فرضتها هوية بطل الرواية وديع؟

هدى بركات: لا تفرض الشخصية شيئا. بل هي من “ضمن” تقنيات الكتابة نفسها. في رواية “سيّدي وحبيبي” جاء شكل السرد من موضوع الحكاية التي أرويها. لذلك أقول إن لكل رواية روايتها، أي تقنياتها الخاصة بها تماما، ولا تنطبق على غيرها. فأنا لا أملك تقنيّة واحدة، لي، لكتابتي الروائيّة.

تأتي تقنية السرد عندي حين أصل إلى تكوين الجملة الأولى، أي حين يتأكّد لي أنّي بتُّ قادرة على كتابة الرواية. الجملة الأولى هي أصعب ما في الرواية، وهي بداية اليقين من قدرة البدء بسماع “الصوت”، أعني صوت السرد الحامل لمستوى التناول اللغوي للحكاية. إن انتظار هذا الصوت الخاص يعني استعدادا قد يأخذ وقتا طويلا. قد أبقى في نوع من البحث والتجريب لمدة طويلة قبل أن أبدأ الكتابة. قد أنتظر طويلا قبل “السيطرة” على طرف الخيط والتمكّن منه في يدي –أي تلك الجملة الأولى- بعد ذلك تبدأ الرواية حياتها على الورق.

الجديد: لماذا تبدو شخصية الرجل في مجمل رواياتك ضعيفة يتجلى هذا واضحا في روايتيك “أهل الهوى” و”سيدي وحبيبي”؟

هدى بركات: هذا صحيح في مجمل كتاباتي، وليس فقط في هاتين الروايتين. الرجل يبدو “ضعيفا” كما تقول لأن شخصياتي ليسوا أبطالا. إنهم على الأغلب هامشيون، أو هم يصارعون أقدارا غاشمة أو ظروفا قاسية في مجتمعات مأزومة وعنيفة… وتطلب من الرجل أن يكون محاربا ليذود عن القبيلة رغم وعيه بأخطائها. فكيف يستطيع الفرد أن يكون “قويّا” آنذاك، وبأيّ مفهوم للقوّة؟ ونحن نتخبّط في أمراض مزمنة من أين نخترع ذلك التماسك المطلوب من الجماعة، وبأي معيار.. نعم. شخصياتي ضعيفة. وحين تنقلب إلى البأس تكون صارت في الإجرام.

الجديد: ما أبرز ما حملته من لبنان حين خرجت منها عام 1989 وما دوره في تشكيل رؤيتك الروائية واختيار شخصياتك وأحداث رواياتك ومواقفك من العالم؟

هدى بركات: ما حملته معي من لبنان حين خرجت عام 1989 هو كلّ ما أنا هو اليوم، مع إضافات قد أصفها بالهامشية. أنا أعيش في فرنسا كأنّها نافذة أطلّ منها إلى بلادي، خاصّة في الكتابة. لم أكتب عن فرنسا سوى بعض النصوص الأدبية التي طُلبت مني، أو بعض المقالات الصحافية والمساهمات التي كتبتها بالفرنسيّة.

صراحة لا يمكنني تقدير الفرق في مكوّنات وعيي لو أني بقيت في لبنان. أنا لم “أهاجر” من أجل مشروع أو هدف. أنا هربت مع ولديّ هربا من نار الحرب. وفي لبنان كانت ثقافتي في مكوّنها الفرنسي موجودة، ولم أكتشف شيئا هنا غيّر حياتي. حصلت على ما كنت أسعى إليه أي الأمان. هذا كل ما في الأمر… ربّما جعلت إقامتي هنا، عن بعد، نظرتي أكثر حدّة وأعمق نقدا لما نحن فيه، إذ لا أخضع هنا لمسايرات وتنازلات قد يفرضها التأقلم مع واقع بلادي.

الجديد: هناك محطات فارقة في تكوينك الثقافي والفكري والإبداعي هل لك أن تلخصيها لنا؟

هدى بركات: يصعب الردّ على هذا السؤال لأننا أنفسنا لا نعي ما هي تلك المحطّات المهمّة.. لنقل ـاختصاراـ إن تجربة الحرب كانت تجربة شديدة العنف، وهي خضّت وعيي بالعالم إلى حدّ أقصى. كأنّها أعادت تربيتي، و”دوّرتني” بشكل مختلف.. إلى ذلك أعتقد أنّها الكتب. فبعض ما قرأت وأقرأ يغيّرني عميقا، يغيّر في تكويني وفي كتابتي وفي نظرتي إلى كل ما حولي. حياتي بسيطة جدا لكن قراءاتي ليست كذلك.

الجديد: كيف تتابعين المشهد الروائي اللبناني الآن وماذا تقرئين المنجز؟ هل هناك إضافة لمسيرة الرواية والقصة؟

هدى بركات: أنا أتابع بالقدر المستطاع توزيع الكتب في فرنسا، ليس فقط الرواية اللبنانية بل العربية عموما. لكن ليس لي رأي أدلي به إذ أشعر أنّه سيكون ناقصا.. الواقع أن الإصدارات أصبحت كثيرة وعديدة بالنسبة للرواية، وأعتقد أن الكلام عن إضافة لمسيرة الرواية ما زال مبكّرا نظرا إلى الكمّ الذي ينهمر.

الجديد: أخيرا، كيف ترين المشهد الثقافي عامة في لبنان، هل ما يزال يملك زخما كذاك الذي عرفناه خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وقد عايشت تلك الحقبة عن قرب؟

هدى بركات: “الزخم” موجود كما لاحظنا، لكن الجديد هو في الفنون البصرية، والبصرية/ السمعية وفي التشكيل، زخم وجدّة لم تعرفهما العقود التي ذكرت. أنا فرحة بهذا ومن خلال متابعاتي هناك ما يتحقّق بالفعل. ربما عندي بعض انحياز بسبب أن ابني رضا رسّام بارع وموهوب.

صحيفة العرب