مدارات يكتبها أدونيس (إنّه الغَزو، إنّها الهجرة) – بقلم أدونيس

ادونيس

ـ 1 ـ

هل تعرف، أنتَ أيُّها الطّائر، ما الفرقُ بين سفَرٍ اسمُه الغَزْو،

وسفَرٍ آخر اسمُه الهجرة؟

هل تعرف لماذا يبدو الأوّلُ، كأنّه طَيْفٌ مع أنّه الأكثرُ ثقلاً وحضوراً،

ولماذا يبدو الثّاني كأنّه هِملايا بلا نهاية. مع أنّه الأقلُّ ثقلاً وحضوراً؟

ـ 2 ـ

حمَلَت ريحٌ خفيفةٌ بيتاً مُهاجِراً، بثقله كلِّه على كاهلِ مَوجَةٍ لا تقدر أن تصلَ إلى أيّ مكان، حتّى إلى شاطئها الذي ينتظرُها، عادةً.

ـ 3 ـ

كانت الشّمسُ نفسُها باردةً. كانت الغيومُ حشوداً من الثّياب المُمَزَّقة تتناثر في الفراغ خرقةً، خِرقةً. وكان القمرُ يطبخُ أحلامَه في أفرانه السّرّيّة التي

لا يعرفها إلاّ الغيب. وكان المهاجِرون يصفّقون للرّاسخين في الغيوب

ويقولون آمَنّا.

ـ 4 ـ

وردةٌ طائرةٌ تحطّ بين أصابعَ من الحديد.

ـ 5 ـ

بيضةُ طائرٍ سقطت لتوِّها على رأس شراعٍ تائه.

كان الطّائرُ يسافِرُ سرّيّاً في ظلِّ عرَبةٍ سماويّة.

ـ 6 ـ

الموجةُ تنام في حضن الموجة:

حضنٌ فارغٌ حتى من الملح.

ـ 7 ـ

بُكاءٌ في الجنوبِ، هباءٌ في الشّمال:

أين البوصلةُ إذاً؟

ـ 8 ـ

يذهبُ الليلُ إلى حمّام النّهار، ويجدُه مُغلَقاً.

يذهبُ النّهارُ إلى حمّام الليل، ويجهلُ كيف يقرعُ الباب.

ـ 9 ـ

جسمُ هذه الغريقةِ ليس ميّتاً وليس حيّاً:

جسمٌ قُفّازٌ تقذفه الأرض في وجه البحر.

ـ 10 ـ

ــ يكفي أن تنظرَ إلى هذه العارية.

ــ كيف أُكَفِّنُها إذاً ؟ انظرْ: عنكبوتٌ ! كيف وصل إلى الكَفَن؟

ومن أين جاء ؟

ـ 11 ـ

أشياء لا أعرف أسماءها تشارك في تشييع جنازةٍ رأسها في

آخر الأفق، وقدماها في أوّل البحر.

ـ 12 ـ

جسمُ الزّورقِ مربوطٌ بجسم حصانٍ يُقالُ إنّه من سُلالةِ طروادة.

وقيلَ إنّه ينحدر من أصالة الفروسة العربيّة.

ـ 13 ـ

الفضاءُ يلتفُّ بأعلامٍ لها أشكالُ الصّواريخ.

ـ 14 ـ

موسيقيٌّ يمزج ألحانَه بقصب الرّياح، وأنين المُهاجرين.

ـ 15 ـ

نامَ المهاجِرون الرّاقصون ونامَتْ أمواجُهم في أحذية السّاحرات

عرائسِ البحرِ، وبين أقدامهنّ وأحواضهنّ.

ثمّ جاءت بقايا المراكب التي غرقَت وانْضمَّتْ إليهم في حفلٍ رماديٍّ

بين الفرح والحزن.

ـ 16 ـ

قالت امرأةٌ شاعرة: ليتني أستطيع أن ألمسَ قدَمَ نجمةٍ تمشي حافيةً.

قال رجلٌ مُغامِر: ليت لذاكرتي أجنحةً، إذاً لكنتُ أطيرُ،

هذه اللحظة، إلى مغارَةِ يوليس.

ـ 17 ـ

كيف يمكن طائرةٌ فقيرةٌ من الشّرق اسمها الهجرة، أن تجرّ وراءها فضاءَ البشرِ، جميعاً، في الغَرْب؟

ـ 18 ـ

شمسُ الهجرة عينٌ ترى كلَّ شيء ولا مِحجَرَ لها.

وقمرُ الهجرةِ قَلبٌ يخفق في كلِّ شيءٍ ولا جِسْمَ له.

ـ 19 ـ

ها نحن، يا صديقي، نَرْدٌــ مجرّدُ نَردٍ في يد الرّيح.

سامِحْنا يا مَوْجَ يوليس، يا مَوجَ هنيبعل، وأنتَ، بخاصّةٍ، يا موجَ

نفرتيتي.

ـ 20 ـ

عندما أيقَنَ أنّ لآماله كوكباً بدأ يتلألأ،

نظرَ إليه، وسرعانَ ما رآه ينطفىء ومضةً ومضة.

ـ 21 ـ

في قلْبِ وَردةٍ طافِيةٍ بين الزّبَد،

أرى سفينةً تُبحِرُ وتجهلُ كيف تقرأ الشَّواطِىء.

أهي سفينةٌ بين سُفُنِ المستقبل؟

ـ 22 ـ

سيفٌ يخترقُ، هو أيضاً، جدارَ صوْتٍ

يخترقُ هو أيضاً جدارَ اللُّغة.

ـ 23 ـ

أخيراً، استيقَظَتِ الثّوْرةُ من نومها

في نَعْشِ حبِّها الأخير.

البحرُ هو الشّاهِدُ الأوّل على هذه اليقظة.

ـ 24 ـ

للمرّةِ الأولى، في علم الفلَك الخاصّ بالبحار،

تتزَلَّجُ الكواكِبُ على سلالِمَ

صنَعَتْها لها، خصّيصاً، كيمياءُ الدّخان.

ـ 25 ـ

اشرَبْ أيُّها المُهاجِرُ، لا تَخَفْ.

ليس في هذا الإبريقِ المُهاجِر هو أيضاً، إلاّ ثُمالةُ الأبَديّة.

ـ 26 ـ

أن تقرأ هو أن تطمس:

تلك هي حكمةُ البحر، اليوم،

وتلك هي حكمةُ البرّ، أيضاً.

ـ 27 ـ

حَرْبُ النّجوم ستارٌ تختفي وراءه حربٌ أخرى، في البحر والبرّ،

لا تعرف ما هي النّجومُ نفسُها.

ـ 28 ـ

تنّينُ الزَّبَد يتمدّدُ هذه اللّحظة

في جوفِ رغيفٍ سرَقَهُ الجوعُ من فُرْنٍ مهاجِر.

ـ 29 ـ

عندما تصِلُ رسالتي إليكَ، أيُّها البحرُ،

حاوِلْ أن تقرأ النّقاطَ والفواصِلَ، البَياضَ وما حولَه،

وحاوِلْ، على الأخّصّ، أن تقرأ الصّمتَ الذي يختبىء،

مُرتَجِفاً تحتَ الكلمات.

الدّلائلُ والإشاراتُ يانصيبٌ لُغويّ.

والمعنى ثُقْبٌ في كَبِدِ الفَلَك.

ـ 30 ـ

هل أقولُ، إذاً، على الأشجار المُثمِرة أن تقومَ هي نفسُها بالقَطاف؟

هل أقولُ، إذاً، على الحقولِ نفسها أن تقوم بالزّرع والحَصاد؟ هل أقولُ، إذاً، على الماء هو نفسه، أن يدخل إلى المُدُنِ والقرى بيتاً بيتاً؟

وماذا أقولُ أيضاً؟

أحقّاً، مات الإنسان؟

جريدة الحياة