المدينة هي القصيدة – بقلم شوقي بزيغ

أمسية شعرية للاشعر شوقي بزيع
لم أكن لسنتين خلتا أعرف عن مدينة أصيلة المغربية سوى كونها مقراً للمنتدى الثقافي السنوي الذي يحمل اسمها منذ أن أسسه محمد بن عيسى، الكاتب والمثقف التنويري والوزير السابق، قبل أربعة عقود من الزمن، تحت عنوان «موسم أصيلة الثقافي الدولي». ورغم أن أصدقاء لي كثيرين، ممن أتيحت لهم زيارة المدينة أو المشاركة في منتداها الثقافي، كانوا يحدثونني عن جمال أصيلة وفرادتها العمرانية والهندسية، فإن البون كان شاسعاً بين ما سمعته من الأصدقاء وبين ما شاهدته بأم العين من معالم المدينة الصغيرة التي بدت لي شبيهة بمتحف فني وثقافي واسع، حتى ليتساءل المرء حقا وهو يتجول بين أحيائها المختلفة، كيف يمكن لبلدة صغيرة كهذه أن تضم بين جنباتها كل هذا القدر من الجداريات الفنية والمنمنمات والمكتبات العامة وقصور الثقافة والمساجد والملاعب الرياضية والمؤسسات التربوية المختلفة. أما فندق «أصيلة 32» الذي استضاف معظم المشاركين في الأنشطة الثقافية والفنية لهذا العام، فقد بدا متناغماً تماماً مع بساطة المدينة وفضائها الأليف. وهو إذ يطل على المحيط، كما على الكورنيش البحري الملاصق، يتيح لنزلائه أن يوزعوا نظراتهم بين الزرقة المترامية للمياه، وبين البيوت الأفقية المتخاصرة التي يعكس بياضها حرارة الشمس وطهارة قلوب ساكنيها في الآن ذاته. وكان علينا، نحن المشاركين في ندوة الشعر، أن نوزع أوقاتنا بين قاعة الفندق السفلية، وبين التجول على الكورنيش البحري أوفي شوارع المدينة وساحاتها وأحيائها، حيث تتواجه المعالم القديمة والحديثة في المدينة المبنية على الطراز الأندلسي، والتي سكنها الفينيقيون وأعطوها اسم أزيلا، ثم تحولت زمن الرومان إلى زيليس، قبل أن يطلق عليها العرب اسمها الحالي.
ثمة شعورٌ غامرٌ بالطمأنينة تمنحه المدينة لأبنائها، الذين يركنون رغم مصاعب الحياة وتحدياتها إلى هدوء دهري وسكينة عميقة، وإلى بطء الزمن الذي يتماهى مع النسيم في طراوته وانسيابه. أما الأسوار التي رفعها البرتغاليون لدى احتلالهم المدينة، لتكون سداً منيعاً في وجه الأعداء فلا تفلح في شطر الزمن المحلي إلى شطرين متضادين، بل يبدو الحاضر فضاءً للماضي، ويبدو الماضي ذخيرة للحاضر، وحصناً منيعاً يعصمه من التذرّر والإمّحاء، وبين الشطرين المتجاورين ثمة عربات وقاطرات صغيرة تتكفل بنقل الزائرين لا من مكان إلى آخر فحسب، بل من حقبة إلى حقبة ومن زمان إلى زمان. وإلى البيئة النظيفة التي تمتاز بها المدينة، فقد تمّ طلاء جدرانها وواجهاتها بالألوان المبهجة والمتناغمة، وتزيينها بالرسوم والنقوش والزخارف، كما تمت إقامة غير نصب وتمثال للكثير من رموز الفكر والأدب والفن وسط ساحاتها الكثيرة، بحيث تحولت المدينة برمتها إلى متحف واسع للألوان والمنحوتات وفنون التشكيل. ولعل كل ذلك لم يكن ليحدث لولا اللمسات الإبداعية الخاصة للوزير الفنان محمد بن عيسى، ابن المدينة ورئيس بلديتها منذ عقود، الذي عمد بموازاة موسمها الثقافي السنوي إلى ترميم الكثير من قصور المدينة ومبانيها، كما عمد إلى إنشاء الحدائق المختلفة التي تحمل أسماء مبدعين عرباً وعالميين، من أمثال محمود درويش، وبلند الحيدري والطيب صالح وتشكايا أوتامسي ومحمد عابد الجابري وآخرين.
لم يتح لي خلال الأيام القليلة التي قضيتها في أصيلة أن أتابع من أنشطة الموسم الثقافي الممتد لشهر كامل سوى الجزء المتعلق بالشعر، والذي توزع بين ندوتين نقديتين انعقدتا نهاراً تحت عنوان «الشعر العربي في مشهد ثقافي متحول»، إضافة إلى قراءات شعرية مسائية شارك فيها عدد من الشعراء العرب المدعوين. وحيث بدا العنوان المطروح للنقاش فضفاضاً إلى حد كبير، فقد ذهبت المداخلات والأوراق النقدية في غير زاوية واتجاه، بحيث بات من الصعب وضع الطروحات المقدمة في نسق أو نصاب محددين. فبعد أن تحدث الوزير المضيف عن الحاجة إلى الشعر في زمننا الراهن، أدار الشاعر والناقد شرف الدين ماجدولين الندوة الأولى، حيث قدم الشاعر والروائي المغربي محمد الأشعري مطالعة عميقة حول راهن الشعر العربي الذي لم يعد فن اليقينيات، بل فن الحيرة والشكوك، واعتبر أن على الشعر بما هو فضاء للحرية أن يتفاعل مع الجماليات الأخرى القادمة من جهة السينما والمسرح وفنون التشكيل. ونفى الناقد المصري صلاح فضل عن الشعر تهمة التراجع والانحسار؛ إذ كثير على لغة واحدة أن تشهد خلال فترة زمنية قصيرة ثلاث ثورات شعرية، هي الرومانسية والشعر الحر وقصيدة النثر، منوهاً بالدور الفاعل الذي يلعبه برنامج «أمير الشعراء» في مصالحة الشعر مع جمهوره وإعادته إلى بعض وهجه القديم. وفي حين اعتبر الناقد الأردني صلاح جرار أن على الشعر ألا يكون صوت صاحبه فحسب، بل صوت الجماعة التي ينتمي إليها وهي تكافح من أجل الحرية والوحدة والتقدم، دعا البحريني كريم راضي إلى شعر جديد يدير ظهره للملاحم وهاجس الخلود، ليحتفي بالهامشي والبسيط والمتواري من الأشياء. كما دعا الشاعر العراقي حميد سعيد إلى رؤية القصيدة من دواخلها المتحولة وغير المرئية، لا من جهة سطوحها البلاغية الظاهرة فحسب. وفي الجلسة الثانية التي تمحورت حول الشعر ووسائل الاتصال الحديثة.
في الجلسة النقدية الثانية التي أدارها الشاعر الأردني جريس سماوي، بدا الشاعر البحريني قاسم حداد بعيداً عن التفاؤل بمستقبل الشعر وجدواه في ظل التنافس القائم بين الأنظمة الحاكمة والمعارضات المختلفة حول تغييب الحرية وتعطيل العقل وتهميش الثقافة والإبداع. ولم يكن المشهد الشعري العربي أقل قتامة من وجهة الكاتب والمترجم التونسي حسونة المصباحي، الذي اعتبر أن عزلة الشاعر العربي وشعوره باليتم والتهميش، قد وفرا له فرصة التجديد وأخذ النص نحو مساحات مغايرة وغير مسبوقة. أما الشاعر المغربي المهدي أخريف فقد لاحظ وقوع الشعر العربي الراهن في النثرية والتنميط الأسلوبي، مشدداً على اعتبار الإيقاع، بما هو عصب الشاعر وبصمته الخاصة، أساساً في تشكّل اللغة وتحديد الهوية الإبداعية. وحيث رأى الناقد المغربي خالد بلقاسم أن لقراءة الشعر شروطاً ثقافية ومعرفية موازية لتلك التي تتطلبها الكتابة نفسها، اقترحت الشاعرة التونسية ربيعة الجلطي على الشعراء أن يفيدوا من منجزات العلم الحديث وكشوفه الصادمة، معتبرة في الآن ذاته بأن الوظيفة الأهم للشاعر هي الدفاع عن الحرية. وإلى جلستي النقد الصباحيتين كانت هناك جلستان مسائيتان مخصصتان للقراءات الشعرية، حيث تناوب على المنبر كلٌّ من الشعراء قاسم حداد، زهير أبو شايب، محمد الأشعري، حميد سعيد، جريس سماوي، ربيعة جلطي، علي عبد الله خليفة، ثريا ماجدولين، مباركة بنت البراء، إكرام عبدي وعمر الراجي. وقد استمعنا في كلتا الأمسيتين، ورغم تفاوت التجارب والمستويات، إلى الكثير من الأصوات التي انتزعت لنفسها مكانة مرموقة في خريطة الشعر العربي المعاصر. أما الشاعر والكاتب الإماراتي سلطان العميمي الذي لم يتمكن من المشاركة في الأمسية الثانية لظروف طارئة، فقد قرأ على مسامعنا في قاعة الفندق قصائد نثرية شديدة التكثيف، هي أقرب إلى قصيدة الومضة أو الحالة منها إلى أي مسمى آخر. ولن تفوتني في هذا السياق الإشارة إلى أن عدداً من الضيوف المدعوين، ممن لم ترد أسماؤهم في البرنامج الرسمي، من أمثال الشاعرة السورية نوال الحوار، والروائية لينا هويان الحسن، والإعلاميين اللبنانيين أحمد علي الزين وإسماعيل حيدر وعلي عجمي، قد شكلوا قيمة إنسانية ومعرفية مضافة إلى المنتدى، لما بثوه في كواليسه الخلفية وجلساته الحميمة من طاقة إيجابية وحيوية بالغة، ولما أشاعوه خلال السهرات واللقاءات الجامعة، من مناخات المرح والدفء والتواصل الأليف.
لا بد، في ختام هذه المقالة، من الإشارة إلى زيارتين خاطفتين لطنجة، عروس الشمال المغربي. كانت أولاهما برفقة الشعراء حيدر محمود وزهير أبو شايب وجريس سماوي، ورئيس الوزراء الأردني السابق عدنان بدران، والأخرى برفقة الشاعر المغربي أحمد الحريشي. والزيارتان على قصرهما كانتا كافيتين لمنحنا كل ما يحتاج إليه الخيال للوقوف على جاذبية المدينة المترعة بالألوان والروائح والمذاقات والرغبات الفائرة. فهنا على الذرى الشاهقة للحواس تتقاطع الذكورة والأنوثة في عناق رمزي يجرده الشعر من التسطيح والابتذال. وهنا حيث كل حقيقة مواربة، وكل رؤيا تتربى في عهدة الكتمان. هنا حيث يختلط الواقع بالأسطورة في الرواية التي تتحدث عن جنوح سفينة نوح باتجاه الغرب، لتنتزع طنجة اسمها من «الطين الذي جاء» بعد الطوفان. هنا حيث المغارة التي اتخذها هرقل مقراً له، بعد أن تكفلت قبضته الهائلة بإحداث الشرخ المائي الفاصل بين أوروبا وأفريقيا. وهنا حيث انزلق أبو عبد الله الصغير عن صخرة الأندلس، يمكن للمرء أن يعثر على الأسباب والمسوغات الفعلية التي دفعت محمد شكري إلى كتابة «الخبز الحافي»، وعلى العوامل التكوينية والمستجدة التي أعطت لطنجة فرادتها وحضورها الآسر، ومنحتها القدرة على إغواء العشرات من كتاب العالم وفنانيه، من أمثال بول بولز، وتينيسي وليمز، وبراين جيسن، وجان جينيه، وكُثر آخرين.
الشرق الأوسط