الذاكرة الشعرية والمكان – بقلم باسم فرات

باسم فرات
حين تتكرر الجمل تباعا، وتأخذ نصف صفحة أو أكثر، حينها يُوأد الشعر، حيث لم تعد الكتابة شعرية بل سردية إخبارية أو تصويرية فوتوغرافية.
لوحة: أحمد أبو زينة
 
تختلف وجهات النظر في العمل الإبداعي بعامة والشعر بخاصة، فهناك مَن يرى أن الشعر يجب ألا يطوقه المكان، أي أن يبقى عامّا في الزمان. ومعظم الشعر؛ إن لم يكن جميعه؛ مخاضه التجربة، حتى لا يكون العمل الإبداعي محض قوالب لغوية تم التلاعب بها، وهو ما نراه في معظم ما يُكتب، باستثناءات قليلة؛ هذه الاستثناءات ندعوها عملا إبداعيّا خلّاقا.

وكل تجربة تخلو من المكان ليست بتجربة، حتى التجارب الروحية التي يخوض غمارها المبدعون والمتصوفة والرهبان وغيرهم، لا بدّ للمكان من حضور وإن كان منزويا في المشهد الإبداعي، فالكائن الحيّ يُشكّل حيزا في المكان وتجاربه الروحية والمادية لا يمكنها أن تتشكل خارج نطاق المكان.

والإبداع هو الفيصل، فَمَن يخلو من مَلَكَة الإبداع إذا استحضر المكان في كتابته وجدنا المكان مستنسخا لا جديد فيه، مكانا التقطته أعين المارة والسابلة، بينما عين المبدع تقرأه بطريقتها التي لا تشبهها قراءة ثانية. إذ لا قيمة للعمل الإبداعي؛ لاسيما القصيدة التي من قواعد بنائها المحو والحذف والإدهاش؛ دون إضفاء الرؤية الإبداعية عليه.

كثيرا ما تعرضتُ لسؤال عن الأمكنة التي تناولتُها في قصائدي، وجوابي الذي لم أغيره “أنكم لو ذهبتم لهذه الأماكن فلن تستدلوا عليها عبر قصائدي، فهيروشيما التي كان لها حضورها الواضح في تجربتي الشعرية، هي هيروشيماي الخاصة، وليست هيروشيما الآخرين، والأمر ينطبق على الأمكنة الأخرى بلا استثناء”.

لا أملك كاميرا تصويرية أو سينمائية؛ أنا المصور الفوتوغرافي منذ حداثة سني؛ ولولا التصوير الفوتوغرافي لكنتُ ضحية من ضحايا حرب عاصفة الصحراء التي كانت جشعة وشرهة في التهام جثث عشرات الآلاف من جيلي؛ إنما أملك عينَيْ شاعر حين أتعامل مع المكان شعريّا، تعضدني تجربتي في مجال التصوير الفوتوغرافيّ، لكن الكاميرا الفوتوغرافية تسقط من يدي حين أكتب قصيدة، ينهض الشعر، ويتوثب الشاعر الذي استوطنني منذ طفولتي.

في طفولتي البعيدة حين كان يقرأ معلمي في العمل؛ في صحيفة “طريق الشعب” الناطقة بلسان الحزب الشيوعي العراقي- حيث كنتُ أعمل حذّاء وأنا في الثامنة من عمري- كانت تسري قشعريرة في روحي، لم تخرج حتى الآن، ومنذ ذلك الحين عرفتُ بأن الشعر خلاصي وحلمي ووطني الأبهى؛ الشعر الذي ليس من واجباته الوعظ ورسم الحياة بكلمات، إنما خلق لغة مختلفة وتأثيث المكان بأثاثي الخاص الذي لم يستطع سواي أن يصنع مثله.

تناول المكان شعريّا يختلف عن تناوله قصصيّا وروائيّا ومسرحيّا، فالسرد الروائي والقصصي يسمح بدرجات بالإسهاب، بينما السرد الشعري لا مكان للإسهاب فيه، وحين يخلو من الإدهاش والقطع الشعري فسيتحول إلى لقطات فوتوغرافية أو سينمائية كُتبت بكلمات وتنتظر مُـخرجا ومصورا لتحويلها إلى حركة. وهذا مأزق وقع ويقع فيه كثير من الذين يقترفون الكتابة ويتوهمونها شعرا، لاسيما من يُطلق عليهم “شعراء قصيدة النثر”، وكأن منبرية وخطابية وشفاهية شعراء العمود والتفعيلة؛ تحولت عند “شعراء قصيدة النثر” إلى سرد تصويري وليس سردا شعريّا.

التحول الشعري مصطلح ربما تختلف تسميته عند النقاد، فعند بعض القدماء يُسمَّى “التهديم”، وعند بعض المحدثين يُسمَّى “الانحراف”، وما أعنيه بالتحول الشعري، هو الإتيان بجملة سردية؛ عادة تكون شفاهية؛ فتُقطع بكلمة غير متوقعة، لترتفع الجملة السردية إلى السرد الشعري، إذ كل جملة سردية في الشعر حين تخلو من هذا القطع المباغت للذاكرة وللشفاهية الشعرية (أي ما تعودته الأذن نتيجة تكراره عند الشعراء)؛ فحين تتكرر الجمل تباعا، وتأخذ نصف صفحة أو أكثر، حينها يُوأد الشعر، حيث لم تعد الكتابة شعرية بل سردية إخبارية أو تصويرية فوتوغرافية.

صحيفة العرب