المرأة المسلمة… من “أَمَةٍ” إلى “إمَامةٍ” – بقلم أمين الزاوي

أمين الزاوي

هناك ثلاثة أعداء ألداء في عيون السلفية العلمية والجهادية: المرأة والموسيقى والحرية الفردية.

إن ممارسة شعائر الدين في مظاهرها وفي مضامينها، أي دين كان، تصبح معرضة للتبدل والتغيير جراء انتشار الوعي الثقافي الإيجابي، جراء تعميم التكنولوجيا وأيضاً نتيجة توطينها في جغرافيا مختلفة. لقد تأكد من تاريخ الديانات أن ممارسة الشعائر تتبدل إن قليلاً أو كثيراً بمجرد انتقالها من فضاء جغرافي حضاري معين إلى آخر، يقوم على رأسمال رمزي مغاير، كما أن التكنولوجيا تسهم في طرد الخرافة من الدين، وفي المقابل تصنع السلفية خرافاتها الجديدة والمعاصرة في كل مرة، مستثمرة في هذه التكنولوجيا ذاتها!

لقد دخلت الموسيقى الكنيسةَ المعاصرة في أميركا في شكل فرجة دينية وفنية استعراضية، حتى أضحت جزءًا عضوياً في الذوق الجمالي العقائدي سمعاً ومشاهدة، لتتجاوز لاحقاً الفضاء الديني، لتصبح ذوقاً اجتماعياً تجاوز الحيّز  الكنسي، فتصبح الكنيسة مؤثرة في الطبوع الموسيقية من خلال كثير من الفرق التي تحولت إلى نجوم عالمية، وأصبح الناس يجيئون للصلاة وللمتعة في الوقت ذاته، وتقلصت المسافة ما بين المتعة الحسية والمتعة الإلهية، ما بين الصلاة والرقص، ما بين التلاوة والغناء.

في مراحل تاريخية معينة، لم يكن الإسلام أيضاً ببعيد من هذا الحس الموسيقي، بل إن كثيرين من المغنين والموسيقيين ومؤدّي الطرب الأصيل، نساء ورجالاً، مروا على حصير الكتاتيب القرآنية، وكثيرين منهم مارس تجويد القرآن، وبعضهم مارس رفع الأذان، كما أن الجلسات الخلانية كطقس صوفي، يحمل كثيراً من المضمون الفني، من الرقص إلى الغناء الذي يصل حد الإغماء والتوحد. فالدين كما يمارسه المتصوفة وبعض التيارات الأخرى تتقلص فيه المسافة ما بين الفني والتعبّدي، ما بين الإمتاع والتأمل.

يذكّرنا التاريخ بأنّ هذه الممارسات والطقوس “التعبدية الفنية” ظلت محارَبة من قبل الأرثوذكسية الإسلامية، أي السلفية النصية الحرفية، التي ترفض كل اجتهاد وتريد أن تبقي الدين على شكله البدوي الجاف.

معركة المرأة في تحرير الإسلام من الأيديولوجيا الذكورية: كانت أهم المعارك الحامية الوطيس في الفضاء الديني والسياسي والاجتماعي، في العالم العربي وشمال أفريقيا، هي تلك التي وقعت حول كتب تناولت “قضية حرية المرأة”. وخلال القرن العشرين بكامله، لم تحدث خصومات فكرية وفقهية وسياسية وحتى أدبية كما حدثت حول كتاب “تحرير المرأة” لقاسم أمين (نُشر عام 1899)، إذ فاق عدد الكتب التي أُلّفت رداً عليه 100 كتاب في فترة قياسية، ما لم يحدث لا مع “الوجود” الاستعماري في هذه المنطقة ولا حتى مع الإعلان عن تأسيس دولة إسرائيل وفكرة تقسيم فلسطين.

أما في القرن الحالي أي الألفية الثالثة،  فأهم اجتهاد معاصر عرفه العالم العربي والإسلامي في باب ممارسة الإسلام وفهمه وتقنينه، ما حدث في تونس، ومرة أخرى هو أيضاً مرتبط بالمرأة، وأقصد به مشروع قانون المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، وأعتقد أن هذا أهم اجتهاد عرفه الإسلام منذ كتاب “تحرير المرأة”. وكما حارب الجميع قاسم أمين والأفكار التنويرية التحررية التي وردت في كتابه، فقد أثار هذا القانون أيضاً كثيراً من الردود من قبل السلفيين في العالم العربي وشمال أفريقيا حتى إنّ بعضهم دعا إلى طرد تونس من منظمة التعاون الإسلامي. وكما كُفّر قاسم أمين، كُفّر الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي، رحمه الله.

إلاّ أنّ المتأمل لتاريخ تونس خلال القرن الماضي، يدرك جيداً أن أطروحة الدفاع عن الدولة المدنية وبهذه الجرأة والوضوح، ليس بالأمر الغريب على البيئة التونسية سياسياً واجتماعياً ودينياً وثقافياً، فهذا كله تولّد عن التكفيرات  الاجتماعية والسياسية والفقهية التي جاء بها الشيخ محمد الفاضل بن عاشور (1909-1970)، وبشكل خاص كتابات الباحث والنقابي طاهر الحداد (1899-1935)، صديق أبو القاسم الشابي في كتابه الشهير “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” المنشور عام 1930، والذي أثار وقتها ضجة كبرى في أوساط السلفية وأصحاب الفكر المحافظ، وقد أصدرت فتاوى تكفير ضد هذا المفكر، وجُرّد من شهادته، وطُرد من عمله، وحوصر في حياته الشخصية والعائلية. ولكن بعد ربع قرن من صدور الكتاب، ستعرف الساحة السياسية التونسية مجيء رئيس جديد  هو الحبيب بورقيبة (1903-2000)، أحد السياسيين المثقفين ثقافة غربية ومحلية، فهو صاحب فكرة التَّوْنَسَة ولكنه أيضاً السوربوني قارئ منتيسكيو وفولتير وروسو وغيرهم، وقد عمل منذ عام 1956 على الدعوة إلى تحرير المرأة وتخليصها مما أصابها في حياتها الشخصية والاجتماعية والاقتصادية جراء التخلف الديني، ما تجسّد في مجلة الأحوال الشخصية لعام 1957.

ومن بين مظاهر الاجتهاد في الإسلام الأوروبي الجديد، ما يعرفه معتنقو الإسلام الفرنسي هذه الأيام، لا سيما بروز ظاهرة غير مسبوقة وهي تولي المرأة مهمة “الإمامة”، وهي من دون شك علامة فارقة في تاريخ الإسلام منذ نشوئه، ورسالة تدل على أن الإسلام الفرنسي يبحث عن نحت مكان مناسب له من خلال التأقلم داخل بنية سلاسل ثقافة فرنسية، نبتت في تربة مشكّلة من أفكار العلمانية وقيم المساواة والدفاع عن حقوق الإنسان وفلسفة الإلحاد، بوصفها رؤية للعالم.

ففي الأسابيع الأخيرة، عرفت الساحة الإسلامية الفرنسية امرأتين تمارسان مهمة إمامة المصلين والمصليات في باريس، وهي المهمة التي ظلت مقتصرة على الرجل على مدى تاريخ الصلاة عند المسلمين.

تُعدّ كاهنة بهلول وهي عالمة في الإسلامولوجيا، أول امرأة تقوم بإمامة الصلاة في باريس، وهي تقوم بذلك من داخل الإسلام نفسه، إذ إنها تعتبر أن الصلاة هي فضاء آخر يمكن للمرأة أن تحقق تحررها، و”أنه لا يمكن تصور قاعة للصلاة، خاصة بالرجال في القرن الواحد والعشرين”، على حد تعبيرها.

وفي قاعة باريسية أخرى، إيفا جنادين Eva Janadine البالغة من العمر 29 عاما التي اعتنقت الإسلام منذ 10 سنوات، تقف بسروال جينز وقميص لإمامة الصلاة، من خلفها تقف مجموعة من المصلين والمصليات جنباً إلى جنب، فالصلاة مختلطة. بعض المصليات محجبات وبعضهن سافرات عاديات، تُؤَدي الصلاة باللغة الفرنسية مع استشهادات لآيات وبعض الأدعية باللغة العربية.

وفي ألمانيا أيضاً، ظهرت السيدة سيران آتيس وهي امرأة مسلمة ألمانية من أصول تركية لتقود الصلاة في مسجد برلين.

إن حالة “المرأة الإمام” ليست عملية تشويه للإسلام أو حالة شاذة، إنما هي حالة إيجابية وطبيعية في علاقة الأديان بمحيطها الاجتماعي الذي يصنع لها ذاكرة ثقافية جديدة، والإسلام في مثل هذه الحالات يسير على خطى ما عاشته الديانتان السماويتان اليهودية والمسيحية من قبل.

وفي الإسلام حيث “المرأة الإمام”، هناك مرافعة واضحة من أجل إسلام متنور وتنويري مربوط بالثقافات والفلسفات العالمية الجديدة وهو في الوقت ذاته، إسلام يغرف من قيم الإرث الصوفي الروحاني العريق والعميق.

كما أن المجتمعات الإسلامية المعاصرة وبكثير من التفاوت، شيئاً فشيئاً، أصبحت تدرك أن المثلية التي لطالما اعتُبرت لعنة سماوية وظاهرة مرضية هي حالة إنسانية طبيعية. وعلى الرغم ممّا تعانيه هذه الفئة الاجتماعية ذات التوجه الجنسي الخاص من معاناة قاسية في المجتمعات الإسلامية، إلاّ أنّه ومع شيوع ثقافة حقوق الإنسان، وتوقيع  كثير من الدول الإسلامية على لوائح الالتزام بحقوق الإنسان العالمية، نلاحظ بداية قبول محتشم ومتعثر لهذه الفئة في المجتمع الإسلامي، وظهرت هنا وهناك نقاشات فلسفية وفقهية وسياسية وطبية حول هذه الظاهرة، ما يؤكد تحوّلاً في سيكولوجية المجتمع والفرد في العالم الإسلامي، وقد بدا ذلك جيداً في علاقة النظام التركي الحاكم الذي هو نظام الإخوان المسلمين وكيفية تعاطيه السلمي والمتسامح مع المثلية، وهو ما صرح به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مرات عدّة، مثلما يُعد التصريح الأخير للشيخ عبد الفتاح مورو، مرشح أكبر حزب إسلامي في تونس وهو حزب النهضة في إطار حملته الانتخابية لرئاسية 2019، أن المثلية الجنسية اختيار شخصي واحترام الحريات الفردية ضرورة ودعا إلى تحريم الاعتداء على الحرمة الجسدية.

كل هذه مؤشرات تدل على أن الفكر الإسلامي والمجتمع الإسلامي بدآ مرحلة جديدة في تاريخ علاقتهما بالمرأة وبالحرية الفردية، وبفلسفة الجسد الذي يُعتبر ملكية خاصة لصاحبه.

قد نختلف، نتفق، ندافع أو نعارض هذه الاجتهادات وهذه السلوكيات التي تعرفها أو التي تعيشها المجموعات البشرية الإسلامية سواء في العالم العربي وشمال أفريقيا أو الجاليات الإسلامية في أوروبا وأميركا، ولكن في كل الحالات، فإن ما يحدث يُعد مؤشراً إلى أن الإسلام أصبح ثقافة عالمية وأصبح جزءًا من السلوك اليومي لشعوب مختلفة الثقافات والمخيلات، عملت على توطين الإسلام في بنيتها الاجتماعية وتعمل على تبنيه في إطار فضاء جديد. وبالتالي، فهو معرض لتغير وتبدل.

www.independentarabia.com