غودار الفلسطيني -بقلم إنعام كجه جي

13520184n

قبل 50 عاما، في عز انتفاضة الطلبة في فرنسا، صعد المخرج جان لوك غودار إلى مسرح مهرجان «كان» السينمائي وتشبّث بالستارة لكي يمنع استمرار عرض الأفلام. صاح في الحاضرين: «لست هنا للحديث عن اللقطات المقربة وحركة الكاميرا، جئت أطلب منكم التضامن مع الطلبة والعمال». ونجح المخرج الشاب في وقف عجلة المهرجان الذي كان رواده يتمتعون بشمس المتوسط بينما شبيبة باريس يواجهون المتاريس وهراوات الشرطة.
غودار، أحد أبرز رواد الموجة الجديدة في السينما، يبلغ اليوم السابعة والثمانين. ويبدو أن المخرج الفرنسي المولد، السويسري الإقامة، ما زال قادرا على إثارة الزوابع في «كان». لقد اعتاد، في السنوات الأخيرة، أن يرسل أفلامه بصحبة منتجيها بينما يمتنع هو عن حضور المهرجان. وعندما سئل عن السبب، أجاب بأن «له عالمه ولا يستطيع السفر وليس من اللائق نقله من مكان لآخر». ولم يكن يتحدث عن نفسه بل عن كلبه روكسي. ولعل هناك كثيرين الذين تنفسوا الصعداء لغياب غودار عن ملتقيات المهرجان ومؤتمراته الصحافية، فالمخرج يشارك في المسابقة الرسمية بفيلم توليفي عن رؤيته للعالم العربي، اليوم، كما أن آراءه المناصرة للقضية الفلسطينية لا تروق لمن يريدون مهرجانا خاليا من المُعكّرات.
في الأسبوع الماضي، أعلن غودار انضمامه إلى حركة مقاطعة السينما الإسرائيلية ووقّع على بيان ضد «موسم فرنسا – إسرائيل»، وهي مظاهرة مقررة خلال الصيف الحالي للتقارب بين البلدين. وأن يضع غودار توقيعه ليس مجرد شخبطة على ورق. إنه المخرج الذي منحته هوليوود «أوسكار الشرف» عن مجمل مسيرته الفنية. وقبل ذلك كان قد فاز مرتين بالدب الفضي في مهرجان برلين، ثم الدب الذهبي. وحصل على الأسد الذهبي من مهرجان البندقية مرتين. كما نال جائزة لجنة التحكيم في مهرجان «كان» و«سيزار» الشرف مرتين.
ليس من السهل حبس جان لوك غودار في خانة معينة، فهو نشأ متمردا على المألوف، تلكأ في المدرسة وانشغل بالرياضة والرسم. ثم خالط مخرجين شبانا طليعيين وسرت خطواته نحو السينما. ولما حقق أفلامه الأولى فإنه كان حريصا على تنفيذ كل مراحلها بنفسه. يؤلف ويكتب السيناريو والحوار ويخرج الفيلم ويتولى تقطيعه ويختار له الموسيقى والمؤثرات الصوتية ويظهر، أحيانا، في بعض مشاهده. عاش في حضن أسرة ميسورة وكان يهوى سرقة الكتب من المكتبات وبيوت الأقارب. وقد امتدت يده، وهو مراهق، إلى مخطوطات للشاعر بول فاليري، كانت من مقتنيات جدّه والد أمّه، وباعها لمكتبة «غاليمار» المقابلة لمنزل الجدّ في بولفار «راسباي». وتطورت هواية اللصوصية بحيث صار الابن الضال في العائلة. وبعد سبعة عقود، ما زالت المكتبة في موقعها وما زال غودار مشاغبا يحمل لقب «الوحش المقدس» في الوسط السينمائي الفرنسي.
حين طلب منه تييري فريمو، المفوض العام لمهرجان «كان»، عرض فيلمه «كتاب الصور» في المسابقة، كان جوابه: «كما تشاؤون». كأنّ الأمر بالنسبة له سيّان. والغريب أن أحدا لم يكن أحد يعرف شيئا عن الفيلم أو شاهد لقطات منه. ولما تم عرضه قبل يومين كتب ناقد أن الفيلم يشبه صاحبه، وأن غودار هو الغائب الحاضر، موجود يراه المشاركون حيثما تلفّتوا. فملصق المهرجان يستعير لقطة من فيلمه الشهير «بييرو المجنون»: قبلة خفيفة بين الشابين جان بول بلموندو وآنا كارينا. وكارينا اليوم في السابعة والسبعين وبلموندو في الخامسة والثمانين والسينما الفرنسية تعيش على ماضيها.

الشرق الاوسط