تأملات في المتغير والدائم – بقلم د. مريم الهاشمي

image

إن الحركة الثقافية التي تشهدها دولة الإمارات، ووصولها إلى التربع على عرش المبادرات الثقافية، ليس على المستوى المحلي فحسب، وإنما على مستوى الوطن العربي، لم تأت وليدة اللحظة، ولم تأتِ فقط مواكبةً للطفرة والنهضة الاقتصادية وإن كان لها الأثر في انفتاحها وازدهارها الكبيرين، بل تاريخها يبدأ من بداية القرن الماضي وإن الشعر ليتصدر غيره مما يتوسل به إلى التعبير عن مثل هذا الوعي، وإلى تغذيته ورفده، ونشر مفاهيمه وتقوية مرتكزاته.
يُعد الشعر (القصيدة العمودية) أول مظهر من مظاهر الحركة الأدبية في المنطقة، لذا جاءت «تائية البستكي» لتسد جزءاً من الثغرة الموجودة في تأريخ الأدب في دولة الإمارات، وتؤكد أن اهتمام الإماراتي بهذا الجانب قديم. ونُظمت التائية عام 1313هـ الموافق 1901م، ودونت في عام 1921م حسب تاريخ المخطوطة الموافق 1339هـ، وتعد من القصائد النادرة التي تؤرخ للقصيدة العمودية في دولة الإمارات، وإن كان يغلب عليها الطابع الوعظي والتعليمي، وفيها يقول صاحبها عبدالرحيم البستكي:

سأحمد ربي في رَخائي وشدتي
وأشكره حتماً على كل حالتي
وأستغفر الغفار ثم أستعيذه
وأثني عليه كل وقت وَساعة
وأشهدُ أن الله لا ربَ غيره
غفورٌ رحيم للذنوب وزلتي
وأنَّ النبي الهاشمي محمَداً
رسول إلى الثقلين إنسٍ وجنَة

وكذلك أبيات للشاعر سالم بن علي العويس (1887– 1959م):

أكرموا كُتْبَهم في دوركم
واجعلوها من خيار المقتَنى
تُبصروا الدين بها في ثوبه
جلّ قدراً وتعالى من كَسا
راجعوا الميزان في أعمالكم
وكتاب الله نِعم المنتهى
يغسلُ الأمة من أدرانها
ويريها لِمساريها الخُطى

والأبيات السابقة تأريخ للحركة الثقافية التي بدأت قبل النقلة الاقتصادية التي شهدتها المنطقة، فللحركة الأدبية في جزيرة العرب تاريخ عريق، لم ينحصر فيها وحدها بل انتقل بعد الفتح الإسلامي إلى تلك الأصقاع التي أصبحت محط سكن القبائل التي فتحتها، وصارت هذه البلاد المفتوحة مراكز أدبية، وعلمية مرموقة، كما أن للموقع الجغرافي أثره في التاريخ السياسي والاقتصادي والفكري للمنطقة، ما أكسبها شهرة تجارية عالمية.

ثقافة مشتركة
وأثناء ذلك التطلع والتعطش نحو اغتراف الثقافة كان الإنسان الخليجي يكدح من أجل قوته ومطالبه المحدودة. ونتج عن الواقع الطبيعي والوضع الاقتصادي والعلاقات القبلية وجود ثقافة مشتركة تمثلت في الفنون والمسكن والملبس وعادات الزواج والمناسبات الدينية والدنيوية، وفي شكل مختصر كانت المعيشة السائدة -آنذاك- محدودة محدودية الموارد المتوفرة، أما الطعام فكانوا يأكلون في الصباح التمرة والغبيبة (وهي بقية العشاء)، ويأكل الأغنياء الخبز والبثيث، وأما الغداء فالفقير غداؤه التمر والمتوت (وهو السمك الصغير المجفف) ويأكل الغني الخبز والتمر واللبن، وقليل من يطبخ الأرز مع الروبيان أو السمك المجفف (المالح)، وأما اللحم والسمك الطري فلا يؤخذان إداماً يومياً، بل مرة في الأسبوع أو مرتين على الأكثر. وأما الغوص فقد كان حياة اجتماعية بحد ذاتها حافلة بالتقاليد والعادات والطقوس، بل إنه طبع الحياة الاجتماعية كلها بميسمه، حتى النشاطات الاجتماعية نظمت حسب مواسمه، وكان المحرك للحياة الخليجية والكثير من العادات التي ما زالت ملامح بعضها حاضرة عند إنسان المنطقة الذي استطاع المحافظة على تلك الملامح والروائح الموسومة بأصالة الماضي الذي منه استمد الحاضر. وما هذا إلا برهاناً واقعياً على أن (الحضارة يمكن أن تقفز فوق المآزق)، فإن حالة شعورنا تنساب خلال الزمن مثلما ينساب النهر خلال الوادي، فنحن متغيرون ودائمو التغير بأننا نبصر ونقبل الواقع الإنساني، ودائمون بخصوصيتنا الحضارية.

جيل الرواد
إلا أن لتنمية الجانب العقلي أثرها في البيئة والحياة العامة، ومع تصاعد القومية العربية (1950م) وظهور عوامل أخرى كالتعليم والأحاديث العربية والسياسية التي تدور في مجالس الشيوخ والوجهاء والتي كان لها أثرها الكبير، إلى جانب احتضان أروقة المساجد وكتاتيبها للوعظ وتعليم العربية والنحو، وكذلك الصحف العربية التي كانت تُنقل إلى منطقة الخليج أسهمت إسهاماً كبيراً في بلورة الاتجاهات عند مثقفي المنطقة وشعرائها، ومن أهم الصحف والمجلات التي مارست تأثيراً واسعاً في منطقة الخليج العربية: (المنار) و(الأهرام) و(اللواء) و(المؤيد) و(الأخبار) ومجلة (الأنصار) ذات الاتجاه القومي، والتي كان يتلقفها الشباب ويراسلون محرريها واتخذوا كتاباتها أفقاً ملهماً لأهدافهم وصولاً إلى المدارس النظامية والبعثات.. كلها عوامل ساعدت في تشكيل الثقافة والأدب على أرض الإمارات، بحيث حمل الرواد قصب السبق في تأسيس الهوية الأدبية والثقافية ومن ثم كان تأثر الجيل اللاحق بهم. لقد أفرزت الحركة الأدبية في الإمارات عدداً من الشعراء الذين أسهموا في بلورة أدب عربي حديث في أرض عربية نائية، أمثال: سالم بن علي العويس ومبارك العقيلي، والشيخ أحمد بن سلطان بن سليم وخلفان بن مصبح وسلطان العويس وإبراهيم المدفع وصقر بن سلطان القاسمي وسواهم.

جيل الحداثة
وكما أن التغير هو سنة الكون فقد نالت المنطقة نصيبها من التغير المتسارع ضمن أجواء معرفية تحيط بالتاريخانية الجديدة للحياة الاجتماعية والاقتصادية والتنموية والسياسية والرياضية، وكان كذلك تأثر الحياة الثقافية والفكرية. وبالتالي كان التغير في الشكل الأدبي لرواد الثقافة والذي تغير مع تغير المعطيات السابقة، ومما لا جدال فيه أن الأديب هو انعكاس مجتمعه ومرآته، ولذا تغير شكل القصيدة ومضمونها ومعجمها اللغوي وتطورت القصة القصيرة، وكذلك ظهرت الرواية وتطورت وغدت أكثر الأجناس الأدبية المشرئبة حضوراً في المشهد الثقافي. وإننا نجد في عالمنا العربي وحتى اليوم شعراء ونقاداً يتحركون في كل الاتجاهات محافظين ورومانسيين وواقعيين ورمزيين.. وغيرهم، وليس ذلك ببعيد عن أدباء المنطقة. وأصبح الاتصال بالعالم الغربي سهلاً ومباشراً، وأصبحت المنطقة منطقة جذب وفد إليها الكثيرون بحضاراتهم المختلفة ومكنت لهم التطلع نحو الآفاق في بنى جديدة ورؤية فكرية كانت عفوية وبدائية أخذت بالتطور نحو الأدب ببناء خط نلمح فيه الآثار الجيدة، والنماذج الشعرية الجيدة.
ومن مظاهره التغير والتطور في البيت الشعري، كما في هذه القصيدة للشاعر سلطان العويس:

عيناها السحر بسطوته
والهدب لناظره قيد
ترنو واللفتة حليتها
والنجم بمبسمها عقد
بدر يتجلى مكتملاً
وعيون الناس لها وعد
وعجبت لأرض تحملها
طرباً لا ترقص أو تشدو

والحقيقة التاريخية هي أن المذاهب الأدبية حالات نفسية عامة ولدتها حوادث التاريخ، وملابسات الحياة في العصور المختلفة، إلا أن السمة العامة للمشهد الثقافي الإماراتي في الوقت الحاضر هي ميزة احتواء الأصالة والمعاصرة والحداثة والتراث، وهو ما يعكسه المجتمع على النتاج الأدبي، ولا يمكن فصل الحياة اليومية والأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية عن الفكرية أو الثقافية، والنتيجة هي أن الصناعة الثقافية في الإمارات عبارة عن موجة هادئة بعيدة عن عنف وتصادم الأمواج العاتية، واستطاعت أن تغير مفهوم جدل النقيض والصراع بينهما بحيث استطاعت الجمع والدمج بينهما في وحدة جدلية متماسكة قادرة أن تجعلنا أبناء عصرنا وتاريخنا في الوقت ذاته. فالأصالة والمعاصرة قطبان لحقيقة واحدة موضوعية، نعبر عنها باستمرارية الوجود والوعي، وجعلته رمزاً لموقف ثقافي إنساني أكسبه المزيد من الثراء والديمومة لخط فكري واضح، فكما كان الاتصال المباشر في القرن الماضي بالثقافات العربية أصبحت حلقة الاتصال اليوم أكثر اتساعاً وشمولية مع واقع التطور والاتصال بالآخر المختلف فكرياً مع الاحتفاظ بالذات الإماراتية الدائمة الجرأة والمريدة لاقتحام الأهوال مع عدم توجيهها نحو المركزية الثقافية التي جعلت العالم يدور في قطب واحد وكل ما عدا ذلك المركز يُعد بدائياً ومتخلفاً مثلما أعطت الحداثة قيمة مطلقة لمفهوم (الليبرالية) ومفهوم (العقلانية) وجعلتهما بمثابة الإجابة المطلقة على معضلات البشر الفكرية، وهذا حصر الحداثة في مجال ذهني ضيق لا يسمح للثقافات الأخرى بالحضور، وهو ما يرفضه المجتمع الثقافي لدينا، بل يدعو إلى الانفتاح والاحتكاك الذي لا نهابُه بل نطلبه لنتأثر ونؤثر مع التمسك بما يميزنا من هوية وأصالة وتاريخ، وإن كانت هناك محاولات لسبر الأغوار الجديدة والبحث عن التجربة وهو أمر لا بد منه لتعلّم زمكانية الوقوف فلا يمكن الوصول دون تلك الإرهاصات، ولكن الواقع الثقافي استطاع التفلّت من العنف والراديكالية نحو المرونة والتسامح والتضامن التي ترجع إلى تلك الجذور التاريخية التي أسلفنا ذكرها بداية المقال.
واستطعنا أن نُوفق في التركيب الصحيح لمعادلة الثوابت مع الحداثة «التَّعصرُن» وهو ما جعلها بعيدة عن أسْر الجمود، وبذلك مسحنا فكرة مسخ أمة وتراث ولم نقع في فخ عقدة (صرصار كافكا) الذي لا يعلم أهو إنسان أم صرصار؟!

جريدة الاتحاد