بسام منصور: جيلنا الشعري انقصف في الحرب – بقلم عبده وازن

abdowazn

يعود الشاعر اللبناني بسام منصور إلى المعترك الشعري عبر إصداره ديواناً جديداً هو «يكفي أن تعبر الليل» (دار النهضة العربية -بيروت). مضى زمن لم ينشر الشاعر منصور ديواناً، لكنّ عدم إقباله على النشر لم يعنِ البتة أنه انقطع عن كتابة الشعر، شاغله الأول والأخير. وها هو الديوان هذا، خير شاهد على مضيّه في الكتابة أولاً، ثم على بلورة تجربته التي تجلّت في ديوانيه السابقين «وجاء أنه» و «الفصول السبعة»، وعلى تطويع أدوات القصيدة وفتح أفقها على معطيات جديدة وغير مألوفة، يتصالح عبرها الجماليّ باليوميّ، الميتافيزيقي أو الوجودي بالواقعيّ، والحلميّ بالتاريخيّ.

ولعلّ قصائد هذا الديوان تنمّ عن بلوغ بسام منصور شأواً في اختبار قصيدة النثر، متكئاً أولاً على خبرته بمعايير هذه القصيدة في تجلّياتها الغربية والعربية، ثم على ثقافته في ميدان الشعر الحديث الذي دأب على مواكبته خلال إقامته الطويلة في باريس التي لجأ إليها بعد اندلاع الحرب الأهلية في لبنان التي وجد في شرارتها الأولى بارقة مأساة تراجيدية عبّر عنها في قصائد عدة.

لم يكتب بسام فقط قصيدة النثر، بل كتب القصيدة التي تنصهر في جوهرها تجربة الشعر الحرّ في مفهومه العالميّ، وعماده الإيقاع الداخليّ والصورة والمجاز والصنعة الشفيفة، وقد أضفى عليه سمة غنائيّة نابعة من وجدانه الأول، هو ابن الريف والمدينة في آن.

يعود بسام منصور إلى النشر شاعراً متفرّداً، في لغته المكثّفة وأسلوبه المتعدّد الألوان والظلال، وفي مقاربته الوجدانية والفلسفية للعالم والإنسان.

< تعود إلى نشر الشعر بعد انقطاع طويل نسبياً عن النشر بديوان هو «يكفي أن تعبر الليل»: ماذا عن هذا الانقطاع؟ هل يستطيع الشاعر أن يطيل غيابه عن النشر ما دام يكتب كما يدل ديوانك الجديد؟

– إنه ليس انقطاعاً بقدر ما هو تساؤل حول جدوى الشعر والأدب والفن والحياة. وهذا الشعور بعدم جدوى هذه الأشياء يلاحقني منذ صغري ولا يزال. حينما يكتب المرء نصاً أراه يبني مكاناً ليلجأ إليه، وإذا بهذا المكان يختفي مع هبوب أول عاصفة أو أول زخة مطر. بين مجموعتي الأولى «وجاء أنه» ومجموعتي الثانية «الفصول السبعة» مرت عشر سنوات تقريباً، ولكنني لم أنقطع يوماً واحداً عن متابعة الشعر والأدب والاستمرار في محاولة تلخيص العالم ببعض الكلام. وأعتقد أن النشر هنا مسألة ثانوية، لأن أهم مكان يمكن للشاعر أو الأديب أن ينشر فيه هو ضميره وعقله حينما يشعر أن ما أنجزه أصبح مقبولاً. حينما أنتهي من نص شعري تغمرني سعادة المراهق العاشق وهذه السعادة بالحب لا يمكن أن يضاهيها أي موقف آخر.

وعدم النشر لم يجعلني يوماً أشعر أن الشعر قد تركني. منذ طفولتي تزوجت الشعر وهو زواج كاثوليكي لا طلاق فيه، وحتى إذا عرجت في حياتي العملية على إغراءات أخرى، فهذا لا يعني أنني غدرت بالشعر أو نسيته. إنني أتابع الأعمال الشعرية العربية وغير العربية عن كثب، إضافة إلى الأعمال الأدبية بصورة أشمل. إذا أردت أن أختصر أقول إنني لم أنقطع عن النشر بل إن النشر كان مشروعاً دائم التأجيل. وما نشرته في عقلي خلال السنوات الماضية نشرته اليوم على الصفحات، ورقاً كانت أو افتراضية.

– يبدو أنك تميل إلى أن تكون من الشعراء المقلين الذين يؤثرون الكتابة بهدوء وتأن بعيداً عن الضوضاء والمنابر، وقد أصدرت حتى الآن ديوانين سابقين. كيف تكتب؟ لماذا تكتب؟ ما هو حافزك على الكتابة؟

-لست مقلاً بدليل ها إنني أنشر ديواني الثالث. بالطبع إنني أقول هذا الكلام للمداعبة ولكن فيه شيء من الحقيقة التي تشغلني دائماً. تصور أن يكون شخص ما صاحب عمل شعري واحد لقي تقدير الناس وحبهم عبر الأجيال مثل القصيدة «اليتيمة».

بالطبع، عندي حرص دائم على متابعة العمل الشعري لوقت ومداعبته. حينما أكتب نصاً لا أعتبر أنني انتهيت منه أشعر أن العمل قد بدأ كالنحات حينما كان يجد الرخامة الجيدة عليه أن يزيل منها الزوائد. هكذا حينما أكتب النص المناسب يبقى لي أن أتصارع معه حتى أمحو منه زوائده. وهنا، لا يعود عندي مكان للكثرة أو للقلة ما هو مهم هو أن يتفتح قلبي على مولود جديد يضحك لي وأضحك له. أما مسألة المنابر فهي مسألة بسيطة جداً، إن النصوص التي أكتبها بمنتهى الحميمية وكأنك تهمس في أذن من تحب فلا يمكنك أن تقرأ هذا فوق المنبر.

– تنتمي إلى جيل الثمانينات الذي نشأ وكتب في ظل الحرب بل عاش في قلبها وعلى هامشها في آن واحد: ماذا يعني لك هذا الانتماء؟ هل تشعر فعلا أنك تنتمي إلى هذا الجيل؟

– أنا أنتمي إلى جيل انقصف عمره بفعل الحرب والحروب التي تلتها. بدل أن نحلم كيف نبني وكيف نعيش حياة أفضل أخذنا نركض هرباً وهلعاً. إن الأجيال التي سبقتنا كانت أجيالاً مليئة بالأحلام ولكن لم يصلنا منها إلا مرارات الخيبة. ولكن مع كل تلك الظروف قررنا أن نقاوم، كل على طريقته بحيث تكون الحياة هي القيمة الكبرى الأساسية والمضافة. هذا الجيل في رأيي عرف كيف يصنف الأشياء على قياس الأداء الجيد من أجل الحياة.

مشكلة العالم العربي اليوم وربما العالم كله أنه يعطي قيمة للأشياء على أساس جدوى هلامية افتراضية ليست مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالحياة واستمرارها وتحسين ظروفها. ما نفع أن نكسب كل شيء ونموت بسبب هذا الكسب؟ إن هذا الجيل أدرك إدراكاً ملموساً أن النظرية رمادية، أما شجرة الحياة فخضراء وأخذ يغرف من الحياة بشوق وخوف منقطعي النظير. طبعاً، أنا ابن هذا الجيل بكل إبداعاته وشغفه وخوفه وآماله البسيطة جداً.

– أنت من الشعراء الذين اختاروا المنفى باكراً، ولكن من غير انقطاع عن لبنان أقله ثقافياً: ماذا عنى لك هذا المنفى؟ ما كان أثره فيك؟

– أنا لم أنقطع لا عن لبنان ولا عن العالم العربي. كما أنني لم أختر المنفى لقد دفعت نحوه دفعاً. ليس هنالك أمرؤ يترك بيته برضاه أو يغادر وطنه بسعادة. وأسطورة المهاجر اللبناني أسطورة سطحية وكاذبة. صحيح هناك من نجح في الغربة وحقق مستوى جيداً له ولأسرته ولكن القاعدة في الحياة أن يبقى المرء في وطنه لهذا اسمه وطن. إن الحرب الأهلية دفعتني دفعا للهجرة وما كان مفترضاً أن يكون لبعض الوقت أخذ الوقت كله كاملاً. في الغربة دائماً الشعور بالمرارة وهو شعور يصبح أليفاً مع الوقت يصبح طبيعياً. وحينما أنظر إلى الشباب العربي اليوم في معظم الدول العربية أشعر أنهم هم المغتربون وهم المنفيون وليس نحن.

إن المنفى حالة طبيعية في الكائنات الحية لا سيما الإنسان. حينما يخرج المرء من الرحم يصبح منفياً. وتعالوا نتأمل كم يصبح المنفى قاسياً حينما يزداد أضعافاً وأضعافاً.

– تخص الشاعر أنسي الحاج بقصيدة طويلة هي بين الرثاء والتحية مع حفر في وجودية شاعر «لن». ماذا يعني لك انسي الحاج الشاعر؟

– بالنسبة إلي، أنسي الحاج عرف أن يطوع الحياة في الشعر وأن يجعل من الحياة طريقة لأن يعيش الشعر. كان شاعراً بمهارة إبداعية نادرة، وكان إنساناً في حالة شعرية نادرة. قد يكون حالة خاصة في الجمع بين شخصيته ككائن وعمله الإبداعي ثمة انسجام كلي عز نظيره. لقد تعرفت عليه وأنا شاب مراهق قبل أن أعمل معه بعد سنوات. كان يومها في المركز الثقافي الألماني، غوته، في بيروت حيث قرأ قصيدته الرائعة «الرسولة بشعرها الطويل متى الينابيع»، وكانت قد صدرت حديثاً. وكان بمعيته الشاعر والكاتب المسرحي عصام محفوظ الذي قدم هذه القصيدة للحضور. وكنت بين الحضور في حالة الخدر الإبداعي حينما كان أنسي الحاج يقرأ تلك القصيدة الرائعة بخجل مفرط جميل. وحينما صافحته بعد الأمسية أدركت صدقه ومستواه الإنساني الراقي في ذلك الانسجام الرائع مع الشعر.

لأنسي الحاج تأثير كبير على الكثير من الأجيال الشعرية ليس بحرفته الشعرية النادرة فحسب، حيث استطاع أن يوائم بين التناقضات كما في «لن»، ولكن أيضاً في حضوره الثقافي الراقي، حيث كان يسعى دائما إلى أن يستفذ أجمل ما لدينا.

– كيف تحدد علاقتك بشعراء الحداثة العربية وشعراء قصيدة النثر خصوصاً، وفي طليعتهم محمد الماغوط؟ من أي ذاكرة غرفت كشاعر؟

– إن الحداثة مشروع لم ينته بعد إنه لا يزال على النار يطبخ ويتحضر ويتجدد. والحداثة الأدبية لا يمكن أن تعمل وحدها «كزنبقة في جمجمة» كما كانوا يقولون في مطلع القرن الماضي إن الحداثة يجب أن تكون في الحياة أيضاً، بحيث يكون الإنسان العربي إنساناً حديثاً في مقاربته لمختلف قضايا الحياة والمجتمع.

بالطبع أنا نشأت على قراءة الشعر الحديث ومتابعته بتفاصيله وبشغف نادر وخصوصاً بدر شاكر السياب ومحمد الماغوط وبالطبع أنسي الحاج. ويمكن أن أقول إنني حفظت تقريباً عن غيب أول كتاب للماغوط «حزن في ضوء القمر» لما فيه من هديل شعري مؤلم وجميل وفي سكب نادر وبسيط. كان الماغوط ينشر في مجلة «المستقبل» الباريسية مقالة أسبوعية تحت عنوان «أليس في بلاد العجائب»، وكنت أنا أتولى تفريغ المقالة على الورق قبل إرسالها إلى الطباعة. لأنه كان يسجلها بصوته على الهاتف. فيومها لم يكن ثمة فاكس بعد ولا إنترنت. وكنت أتمتع بهذا العمل متعة نادرة لأسلوب الماغوط وسخريته وحزنه.

– «يكفي أن تعبر الليل» عنوان مثير وموح. ومعروف أن الليل كان مرجعاً شعرياً منذ الرومنطيقية الألمانية حتى الشعر الحداثي مروراً بالشعر الصوفي. أي ليل هذا الذي تستوحيه وتعبره؟

– إن عذاب الليل عذاب وجودي أعتقد أنه مشترك في كل الثقافات والحضارات. وفي الثقافة العربية لقد بدأ مع الجاهليين وأشهره ما جاء في معلقة إمرئ القيس: «ألاَ أَيُّـهَـا الـلَّـيْـلُ الـطَّـوِيْـلُ ألاَ انْـجَلِي بِـصُـبْـحٍ، وَمَا الإصْـبَاحُ مـنِـكَ بِأَمْثَلِ». أعتقد أن العالم يكون أقل حزناً لو لم يكن هناك ليل. لذلك ترى الليل المكان الزمني المفضل للمنادمة لأنها تساعد على تقليصه وعبوره. وثمة من يرى الليل في عز النهار بمعنى الظلامية ولنا بقصة مصباح ديوجين مثلاً، حيث كان يحمل مصباحاً في النهار بحثا عن الإنسان. والليل بالمعني الفيزيائي، هو حالة يصعب تجاوزها لذلك نلجأ إلى النوم هرباً منها، وربما إننا هنا نقوم بنوع من البروفا لغروبنا الشخصي، وما عبورنا إياه إلا عودة إلى الحياة. وأنا صغير تأثرت جداً بكتابات جبران خليل جبران وأذكر نصاً هز وجداني في ذلك الوقت عنوانه «أيها الليل» يختتمه في هذا الشكل المأسوي: «أنا ليلٌ مسترسلٌ منبسطٌ هادئٌ مضطرب، وليس لظلمتي بدءٌ، وليس لأعماقي نهايةٌ، فإذا ما انتصبت الأرواح متباهيةً بنور أفراحها، تتعالى روحي متجمّدة بظلام كآبتها. أنا مثلك أيّها اللّيل، ولن يأتيَ صباحي حتى ينتهي أجلي».

وربما أجمل شيء في الحياة هو الصباح. العبور إلى الضفة الأخرى بعد الليل.

جريدة الحياة